وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ

أضواء البيان للشنقيطي

Tafseer Not Available

أنوار التنزيل للبيضاوي


   -" ومن الناس من يشري نفسه " يبيعها أي يبذلها في الجهاد أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل " ابتغاء مرضاة الله " طلباً لرضاه . قيل : إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال ك إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي فقبلوه منه وأتى المدينة . " والله رؤوف بالعباد " حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء وكلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء .


أيسر التفاسير للجزائري


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } * { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ }

{ شرح الكلمات }:

{ يعجبك }: يروق لك وتستحسنه.

{ في الدنيا }: إذا تحدث في أمور الدنيا.

{ ألد الخصام }: قوي الخصومة شديدها لذلاقة لسانه.

{ تولى }: رجع وانصرف، أو كانت له ولاية.

{ الحرث والنسل }: الحرث: الزرع، والنسل: الحيوان.

{ أخذته العزة بالاثم }: أخذته الحميّة والأنف بذنوبه فهو لا يتقي الله.

{ يشري نفسه }: يبيع نفسه لله تعالى بالجهاد في سبيله بنفسه وماله.

معنى الآيات:

يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن حال المنافقين، والمؤمنين الصادقين فقال تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن الناس رجل منافق يحسن القول وإذا قال يعجبك قوله لما عليه من طلاء ورونق وذلك إذا تكلم في أمور الحياة الدنيا بخلاف أمور الآخرة فإنه يجهلها وليس له دافع ليقول فيها لأنه كافر، وعندما يحدث يشهد الله أنه يعتقد ما يقول فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الله أني مؤمن وأني احبك، ويشهد الله أني كذ... وإذا قام من مجلسك وانصرف عنك { سعى في الأرض } أي مشى فيها بالفسد ليهلك الحرث والنسل بارتكاب عظائم الجرائم فيمنع المطر وَتيبس المحاصيل الزراعية وتمحل الأرض وتموت البهائم وينقطع لانسل وعمله هذا مبغوض لله تعالى فلا يحبه ولا يحب فاعله. كما أخبر تعالى أن هذا المنافق إذا أمر بمعروف أو نهي عن منكر فقيل له اتق الله لا تفعل كذا او اترك كذا تأخذه الأنفة والحمية بسبب ذنوبه التي هو متلبس بها فلا يتقي الله ولا يتوب إليه فيكفيه جزاء على نفاقه وشره وفساده جهنم يمتهدها فراشا ولا يبرح منها أبداً ولبئس المهاد جهنم.

كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق نفيقول من الناس رجل مؤمن صادق الإِيمان باع نفسه وماله لله تعالى طلبا لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السلام فقال تعالى { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة لاله والله رؤوف بالعباد } رحيم بهم.

قيل أن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاثة الأولى هو الأخنس بن شريق، وأن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة (207) هو صهيب بن سنان الرومي أوبو حييى إذ المشركون لما علموا به أنه سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قالوا لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد فلن نسمح لك بالهجرة إلا إذا أعطيتنا مالك كله فاعطاهم كل ما يملك وهاجر فلما وصل المدينة ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ربح البيع أبا يحيى ربح البيع ". والآيات وإن نزلت في شأن الأخنس وصهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالأخنس مثل سوء لكل من يتصف بصفاته، وصهيب مثل الخير والكمال لكل من يتصف بصفاته.

هداية الآيات:

من هداية الآيات:

1- التحذير من الاغترار بفصاحة وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل الإِيمان والإخلاص.

2- شر الناس من يفسد في الأرض بارتكاب الجرائم مما يسبب فساداً وهلاكا للناس والمواشي.

3- قول الرجل يعلم الله، ويشهد الله يعتبر يميناً فليحذر المؤمن أن يقول ذلك وهو يعلم من نفسه أنه كاذب.

4- إذا قيل للمؤمن اتقي الله يجب عليه أن لا يغضب أو يكره من أمره بالتقوى بل عليه أن يعترف بذنبه ويستغفر الله تعالى يقلع عن المعصية فورا.

5- الترغيب في الجهاد بالنفس والمال وجواز أن يخرج المسلم من كل ماله في سبيل الله تعالى ولا يعد ذلك اسرافاً ولا تبذيراً إذ الإِسراف والتبذير في الإِنفاق في المعاصي والذنوب.

إرشاد العقل السليم لأبي السعود

تفسير الآية (207):{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}
{وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ} مبتدأ وخبرٌ كما مر أي يبيعها ببذْلِها في الجهاد ومشاقِّ الطاعات وتعريضِها للمهالك في الحروب، أو يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر وإن ترتب عليه القتلُ {ابتغاء مرضات الله} أي طلباً لرضاه وهذا كمالُ التقوى، وإيرادُه قسيماً للأول من حيث إن ذلك يأنفُ من الأمر بالتقوى وهذا يأمرُ بذلك وإن أدى إلى الهلاك، وقيل: نزلت في صهيبِ بنِ سنانٍ الروميّ، أخذه المشركون وعذبوه ليرتدَّ فقال إني شيخٌ كبير لا أنفعُكم إن كنت معكم ولا أضرُّكم إن كنت عليكم فخلُّوني وما أنا عليه وخُذوا مالي فقَبِلوا منه مالَه فأتى المدينة، فيشري حينئذٍ بمعنى يشتري لجريان الحال على صورة الشراء {والله رَءوفٌ بالعباد} ولذلك يكلفهم التقوى ويعرِّضهم للثواب، والجملةُ اعتراضٌ تذييلي.

البحر المحيط لأبي حيّان

{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى  نَفْسَهُ ٱبْتِغَاء  مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } قيل المراد: بمن، غير معين، بل. هي في كل من باعنفسه لله تعالى  في جهاد، أو صبر على  دين، أو كلمة  حق عند جائر، أو حمية  لله، أو ذب عنشرعه، أو ما أشبه هذا. وقيل: هي في معين، فقيل في: الزبير والمقداد بعثهما رسول الله صلى  الله عليهوسلم إلى  مكة  ليحطا خبيباً من خشيته، وقيل: في صهيب الرومي خرج مهاجراً فلحقته قريش، فنشل كنانته، وكان جيد الرميشديد البأس محذوره، وقالوا: لا نتركل حتى  تدلنا على  مالك، فدلهم على  موضعه، فرجعوا عنه، وقيل: عذب ليترك دينه فافتديمن ماله وخرج مهاجراً، وقيل: في علي حين خلفه رسول الله صلى  الله عليه وسلم. وقال الحسن: نزلت في المسلم يلقى  الكافر فيقول: قل: لا إله إلا الله، فلا يقول، فيقول: والله لأشرين، فيقاتل حتى  يقتل. وقال ابن عباس:في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: في صهيب، وأبي ذر، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب، فخرج مهاجراً.وقيل: في المهاجرين والأنصباء ، وذكر المفسرون غير هذا، وقصصاً طويلاً في أخبار هؤلاء  المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية .والذي  ينبغي أن يقال: إنه تعالى  لما ذكر {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } وكان عاماً في المنافق الذي  يبديخلاف ما أضمر، ناسب أن يذكر قسيمه عاماً من: يبذل نفسه في طاعة  الله تعالى  من أي صعب كان، فكذلك المنافق مدارٍ عن نفسه بالكذب والرياء ، وحلاوة  المنطق، وهذا باذلٌ نفسه لله ولمرضاته. وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتينتحت عموم هاتين الآيتين، ويكون ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على  نحو من ضرب المثال، ولايبعد أن يكون السبب خاصاً، والمراد عموم اللفظ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني، أتى  في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه، فقال: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى  } بخلاف قوله: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ء اتِنَا فِى  ٱلدُّنْيَا حَسَنَة } فانه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم، أضمر في الثاني المقسم. ومعنى  يشري: يبيع، وهو سائغ في اللسان، قال تعالى :
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرٰهِمَ }
قال الشاعر:
وشريت بُرداً ليتني      من بعد بُردٍ كنت هامة
ويشري: عبارة  عن أن يبذل نفسه في الله، ومنه تسمى  الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله،وقال قوم: شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية  في صهيب فهذا موجود فيه حيث اشترى  نفسه بماله ولم يبعها.وانتصاب: ابتغاء ، على  أنه مفعول من أجله، أي الحامل لهم على  بيع أنفسهم، إنما هو طلب رضى  الله تعالى ، وهومستوفٍ لشروط المفعول من أجله من كونه مصدراً متحد الفاعل والوقت، وهذه الإضافة ، أعنى : إضافة  المفعول من أجله، هي محضة ،خلافاً للجرمي، والرياشي، والمبرّد، وبعض المتأخرين، فانهم يزعمون أنها إضافة  غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو. ومرضاة : مصدربني على  التاء : كمدعاة ، والقياس تجريده عنها، كما تقول: مرمى  ومغزى ، وأمال الكسائي: مرضات، وعن ورش خلاف في إمالة : مرضات،وقرأنا له بالوجهين، ووقف حمزة  عليها بالتاء ، ووقف الباقون بالهاء . فأمّا وقف حمزة  بالتاء  فيحتمل وجهين. أحدهما: أن يكونعلى  مذهب من يقف من العرب على : طلحة ، وحمزة ، بالتاء ، كالوصل، وهو كان القياس دون الإبدال. قال:
دار السلمى  بعد حول قد عفت      بل حوز تيهاء  كظهر الحجفت
وقد حكى  هذه اللغة  سيبويه. والوجه الآخر: أن تكونعلى  نية  الإضافة ، كأنه نوى  تقدير المضاف إليه، فأراد أن يعلم أن الكلمة  مضافة ، وأن المضاف إليه مراد: كإشمام منأشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة  مرادة ، وفي قوله: {ٱبْتَغَاء  مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ } إشارة  إلى  حصول أفضل ماعند الله للشهداء ، وهو رضاه تعالى . وفي الحديث الصحيح، في مجاورة  أهل الجنة  ربهم تعالى ، حين يسألهم: هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا كيف لا ترضى  وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك؟ فيقول: ولكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: ياربنا، وما أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده. {وَٱللَّهُ رَء وفٌ بِٱلْعِبَادِ } حيث كلفهمبالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء ، قاله الزمخشري؛ وقال ابن عطية : ترجئة  تقتضي الحض على  إمتثال ما وقع به المدح في الآية ،كما في قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذمّ، وتقدّم أن الرأفة  أبلغ من الرحمة .والعباد إن كان عاماً، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى  انقضاء  آجالهم، وتيسير أرزاقهم لهم، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته، ورفع درجاتهم في الجنة . وإن كان خاصاً، وهو الأظهر، لأنه لما ختم الآية  بالوعيد من قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } وكان ذلك خاصاًبأولئك الكفار، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب، وجزيل المآب، ودل على  ذلك بالرأفة  التي هي سبب لذلك، فصارذلك كناية  عن إحسان الله إليهم، لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لميفد ما أفاده لفظ الرأفة ، ولذلك كانت الكناية  أبلغ، ويكون إذ ذاك في لفظ: العباد، التفاتاً، إذ هو خروج منضمير غائب مفرد إلى  اسم ظاهر، فلو جرى  على  نظم الكلام السابق لكان: والله رؤوف به أو بهم، وحسن الالتفاتهنا بهذا الاسم الظاهر شيئان، أحدهما: أن لفظ: العباد، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص، كقوله:
{ إِنَّ عِبَادِى  لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ }

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى  أَسْرَى ٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً }

{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا }

{ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ }
. والثاني: مجيء  اللفظة  فاصلة ، لأن قبله: {وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ * فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } فناسب: {وَٱللَّهُ رَء وفٌ بِٱلْعِبَادِ }. وفي هذه الآية ، والتي قبلها من علم البديع: وقد ذكرنا مناسبة  هذا التقسيم للتقسيم السابق قبلهفي قوله: {فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ء اتِنَا فِى  ٱلدُّنْيَا } قال بعض الناس: في هذه الآيات نوع من البديع،وهو التقديم والتأخير، وهو من ضروب البيان في النثر والنظم دليل على  قوة  الملكة  في ضروب من الكلام، وذلك قوله:{وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِى  أَيَّامٍ مَّعْدُودٰتٍ } متقدم على  قوله: {فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } لأن قوله: {وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِى  أَيَّامٍمَّعْدُودٰتٍ } معطوف عليه، قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } وقوله: {فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } معطوف على  قوله:{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ } وقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ } معطوف على  قوله: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ } وعلى  قوله: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى  } فيصير الكلام معطوفاً على  الذكر لأنه مناسب لما قبله من المعنى ، ويصير التقسيم معطوفاً بعضه على بعض، لأن التقسيم الأول في معنى  الثاني، فيتحد المعنى  ويتسق اللفظ، ثم قال: ومثل هذا، قد ذكر قصة  البقرة ، وقتلالنفس، وقصة  المتوفى  عنها زوجها، في الآيتين، قال: ومثل هذا في القرآن كثير، يعني: التقديم والتأخير، ولا يذهب إلى  ماذكره، ولا تقديم ولا تأخير في القرآن، لأن التقديم والتأخير عندنا من باب الضرورات، وتنزه كتاب الله تعالى  عنه.

البسيط للواحدي

207 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} الآية، يشري من الأضداد، يقال: شَرَى إذا باع، وشرى إذا اشترى. وأصله: الاستبدال، قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، أي: باعوه .
ومعنى بيع النفس هاهنا: بذلها لأوامر الله وما يرضاه .
ونصب {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} على معنى المفعول له، أي: لابتغاء مرضاة الله، ثم نزع اللام منه، فوصل الفعل فنصبه ، ولا يجوز على هذا: فعله زيدًا، أي: لزيد، ويجوز: فعله خوفًا، أي: للخوف، وذلك أن في ذكر المصدر دليلًا على الغَرَضِ الداعي إلى الفعل، وليس كذلك ذكر زيد، ولأن في قوله: فعله لزيدٍ، تضمينًا، كأنه قال: فَعَلَه لإكرامِ ولسببِ زيدٍ، وما أشبه هذا مما يكون داعيًا إلى الفعل، فلم يحتمل الكلام حذفين كما احتمل حذفًا واحدًا .
والمرضاة: الرِّضَى، يقال: رَضِيَ رِضًا ومَرْضَاة .
وكان الكسائي يقرأها ممالة ، ليدل على أن الألف فيها منقلبة عن الباء، ولم يمنعها المستعلي وهو (الضاد) من الإمالة، كما لم يمنع من إمالة نحو: صار وخاف وطاب .
وكان حمزة يقف عليها بالتاء ، وحجته ما حكاه سيبويه عن أبي الخطاب ، أنه كان يقول: طَلْحَت . وأنشد الأخفش:
ما بَالُ عَيْني عن كَرَاها قد جَفَتْ ... مُسْبِلَةً تَسْتَنّ لَمّا عَرَفَتْ
دارًا لِسَلْمى بعد حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ ... بل جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْر الْجَحَفَتْ
ويجوز أن يكون لما كان المضاف إليه في التقدير أثبت التاء، كما
يثبته في الوصل، أن المضاف إليه مراد ، كما أشم من أشمّ في الوقف
الحرفَ المضمومَ، ليعلم أنه في الوصل مضمومٌ، وكما كَسَر من كَسَر قوله:
......................... واعتقالًا بالرِّجْلِ
ليعلم أنه في الوصل مجرور. ويدل على حُجةِ قراءة حمزة قول الراجز:
إن عَدِيًا رَكِبَتْ إلى عَدِي ... وجَعَلَتْ أمْوالَها في الحُطَمي
ارْهَنْ بَنِيكَ عَنْهم ارْهَنْ بَنِي .
أراد: بنيّ، فحذف ياء الإضافة للوقف، كما يخفف المثقل من نحو: سُرٍّ وضُرٍّ، فلولا أن المضاف إليه المحذوف في تقدير المثبت لرد النون في بنين، فكما لم يَرُدَّ النون في بنين فكذلك لم يقف بالهاء في (مَرْضَاةِ)، لأن المضاف إليه في تقدير الثبات في اللفظ .
فأما التفسير، فقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، كان رجلًا من ولد النِّمر بن قاسط ، فَسُبِيَ صغيرًا إلى الروم، فتغير لسانه، ثم كان مملوكًا لابن جُدْعان ، فآمن بالله وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل مهاجرًا إليه، فأخذه المشركون، فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير لا يضركم أَمِنْكُم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك، وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة، فلما بلغ المدينة تلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في رجال، فقال له أبوبكر: ربحَ بيعُك أبا يحيى، فقال له صهيب: وبيعك فلا يخسر، ما ذاك؟ فقال أنزل الله فيك، وقرأ عليه هذه الآية .
وقال ابن عباس في رواية عطاء: إنه بذل ماله لمولاه، وقال له: خذ مالي وسَيِّبْني، فقد آمنت بالله وحده لا شريك له، فأعطى ماله وخرج مهاجرًا . وعلى هذا يشري بمعنى: يشتري، كأنه يشتري نفسه من مولاه بماله، أو من المشركين بماله . وروى عن ابن عباس أيضًا في هذه الآية، أنه قال: أرى هاهنا من إذا أُمِر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشري نفسي فقاتله فاقتتل الرجلان ، لذلك كان علي رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية يقول: اقتتلا ورب الكعبة ، وهذا كالمستنبط من الآية، وذلك أن هاتين الآيتين تتضمنان المعنى الذي أشار إليه ابن عباس .

التحرير والتنوير لابن عاشور

هذا قسيم { ومن الناس من يعجبك قوله } [البقرة: 204] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعاباً لقسمي الناس، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به.

و(يشري) معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [البقرة: 41]. واستعمل (يشري) هنا في البذل مجازاً، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكاً في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان.

ومرضاة الله رضاه فهو مصدر رَضيَ على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعاً كالمَدْعاة والمَسْعاة، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النَّمرَى بن النمر بن قاسط الملقب بالرومي؛ لأنه كان أسَرَه الرومُ في الجاهلية في جهات الموصل واشتراه بنو كلب فكان مولاهم وأثرى في الجاهلية بمكة وكان من المسلمين الأولين فلما هاجر النبي خرج صهيب مهاجراً فلحق به نفر من قريش ليوثقوه فنزل عن راحلته وانتثل كنانته وكان رامياً وقال لهم لقد علمتم أني من أرماكم وأَيْمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيءٌ فقالوا: لا نتركك تخرج من عندنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً، ولكن دلنا على مالك وتخلي عنك وعاهدوه على ذلك فدلهم على ماله، فلما قدم على النبي قال له حين رآه رَبِحَ البيعُ أيا يحْيى وتلا عليه هذه الآية، وقيل إن كفار مكة عذَّبوا صهيباً لإسلامه فافتدى منهم بماله وخرج مهاجراً، وقيل: غير ذلك، والأظهر أنها عامة، وأن صهيباً أو غيره ملاحظ في أول من تشمله.

وقوله {والله رؤوف بالعباد} تذييل أي رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة.

والظاهر أن التعريف في قوله (العباد) تعريف استغراق، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرِّزق، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.

ويجوز أن يكون (أَلْ) عوضاً عن المضاف إليه كقوله { فإن الجنة هي المأوى } [النازعات: 41]، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } في [سورة الحجر: 42].

ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان مَا صْدَق (مَنْ) عاماً كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلاً بنفسه وهو من لوازم التذييل، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عباداً له، وإن كان ما صْدَق (مَنْ) صهيباً رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف بالعباد الذين صهيب منهم، والجملة تذييل على كل حال، والمناسبة أن صهيباً كان عبداً للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به.

وفي هذه الآية وهي قوله: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } [البقرة: 204] إلى قوله {رؤوف بالعباد} معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلِّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلاّ بعد التجربة والامتحان، فإن من الناس من يغُر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري:.

وقد يُخْلِفُ الإنسانُ ظَنَّ عَشِيرةٍ   ***   وإن رَاقَ منه مَنْظَرٌ ورُوَاء.

وقد شمل هذا الحالَ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن من البيان لسحرا" بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكَلِم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يُشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية.

وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبىء خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به.

 

التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي

تفسير الآية رقم (207):{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}{وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ} أي يبيعها، قيل: نزلت في صهيب. وقيل: على العموم، وبيع النفس في الهجرة أو الجهاد، وقيل: في تغيير المنكر، وأنّ الذي قبلها فيمن غُيِّر عليه فلم ينزجر.

التفسير الميسّر

وبعض الناس يبيع نفسه طلبًا لرضا الله عنه, بالجهاد في سبيله, والتزام طاعته. والله رءوف بالعباد, يرحم عباده المؤمنين رحمة واسعة في عاجلهم وآجلهم, فيجازبهم أحسن الجزاء.

التفسير الوسيط لطنطاوي

أما النوع الثاني من الناس وهم الأخيار الصادقون فقد عبر عنهم القرآن بقوله - تعالى - : ( وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد ) .
( مَن يَشْرِي ) أي : يبيعها ببذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته ، وتحقيقه أن المكلف قد بذل نفسه بمعنى أنه أطاع الله - تعالى - وحافظ على فرائضه ، وجاهد في سبيله ، من أجل أن ينال ثواب الله ومرضاته ، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة ، وكان هو بمنزلة البائع ، وكان قبول الله - تعالى - منه ذلك وإثابتهخ عليه في معنى الشراء .
وقوله : ( ابتغآء مَرْضَاتِ الله ) الابتغاء الطلب الشديد للشيء ، والرغبة القوية في الحصول عليه ، وهو في الآية مفعول لأجله .
أي : ومن الناس نوع آخر قد باع نفسه وبذلها في طاعة الله طلباً لرضوانه ، وأملا في مثوبته وغفرانه .
فهذالنوع التقي المخلص من الناس ، يقابل النوع المنافق المفسد الذي سبق الحديث عنه .
قال بعضهم : وكان مقتضى هذه المقابلة أن يوصف هذا الفريق الثاني بالعمل الصالح مع عدم التعويض والتبجح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله وموافقة لسانه لما في قلبه . والآية قد تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به ، فإن من يبيع نفسه لله لا يبغى ثمناً لها سوى مرضاته لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق مع الإِخلاص في القلب فلا يتكلم بلسانين ولا يقابل الناس بوجهين . ويكون هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه " .
وقال أحد العلماء : ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا . ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه ، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين المصدر الميمي وغيره والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما ، أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعاً قائماً متحققاً في الوجود ، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجرداً فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول ، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجرداً من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أولا . أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق ، أو في صورة الموجود المتحقق ، وعلى ذلك ( ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله ) أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلباً موثقاً رضا الله - سبحانه - حقيقة واقعة مؤكدة ، ويتصورون رضاه - سبحانه - حقيقة قائمة قد حلت بهم ، فيشتد طلبهم وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله - : ( والله رَؤُوفٌ بالعباد ) أي ، رفيق رحيم بهم ، ومن مظاهر ذلك أنه لم يبكلفهم بما هو فوق طاقتهم ، وإنما كلفهم بما تطيقه نفوسهم ، وأنه أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه ، وأنه كافأهم بالنعيم المقيم على العمل القليل ، وأنه جعل العاقبة للمتقين لا للمفسدين ، إلى غير ذلك من مظاهر رأفته التي لا تحصى .
 
هذا ، وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية منها أنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، وذلك لأنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه المشركون أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر أذنوا له ، فنخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية . فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له : ربح البيع يا صهيب ، فقال لهم وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عندما رآه : " ربح البيع ، ربح البيع " مرتين .
وهناك روايات أنها نزلت في وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين .
والذي نراه - كما سبق أن بينا - أن الآية الكريمة تتناول كل من أطاع الله - تعالى - وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمته ، ويدخل في ذلك دخولا أولياً من نزلت فيهم الآية ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء .
وبذلك نرى أن الآيات قد بينت لنا نوعين من الناس : أحدهما خاسر ، والآخر رابح ، لكي نتبع طريق الرابحين ، ونهجر طريق الخاسرين ( وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير ) .
وبعد أن عرض القرآن هذين النوعين اللذين نجدهما في كل زمان ومكان ، وجه نداء إلى المؤمنين دعاهم فيه إلى الاستجابة التامة لخالقهم فقال - تعالى - :
( ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا . . . )
 

الدر المصون للسمين الحلبي

[آية رقم : 207]
قوله تعالى: {مَن يَشْرِي} : في «مَنْ» الوجهانِ المتقدِّمان في «مَنْ» الأولى، ومعنى يَشْري: يَبيع، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] ، إن أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخرة، وقال: 904 - وَشَرَيْتُ بُرْداً ليتني ... من بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ فالمعنى: يَبْذُل نفسَه في اللَّهِ، وقيل: بل هو على أصلِهِ من الشِّراء وذلك أَنَّ صُهَيْباً اشترى نفسَه من قريشٍ لمَّا هاجَرَ، والآيةُ نَزَلَتْ فيه. قوله: {ابتغآء} منصوبٌ على أنه مفعولٌ من أجله. والشروطُ المقتضيةُ للنصبِ موجودةٌ. والصحيحُ أنَّ إضافةَ المفعولِ له مَحْضَةٌ، خلافاً للجرمي والمبرد والرياشي وجماعةٍ من المتأخَّرين. و «مرضاة» مصدرٌ مبنيٌّ على تاء التأنيث كَمَدْعَاة، والقياسُ تجريدُهُ عنها نحو: مَغْزَى ومَرْمَى ووقَفَ حمزة عليها بالتاء، وذلك لوجهين: أحدهما أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ كما هي: وأنشدوا:905 - دارٌ لسَلْمَى بعد حولٍ قد عَفَتْ ... بل جَوْزِ تيهاءَ كظهْرِ الجَحَفَتْ وقد حكى هذه اللغةَ سيبويه. والثاني: أن يكونَ وقف على نيةِ الإِضافة، كأنه نَوَى لفظَ المضافِ إليه لشدةِ اتِّصال المتضايفَيْنِ فأَقَرَّ التاءَ على حالِها مَنْبَهَةً على ذلك، وهذا كما أَشَمُّوا الحرفَ المضمومَ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها. وقد أمالَ الكسائي وورش «مَرْضات» . وفي قولِهِ: {بالعباد} خروجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إلى الاسمِ الظاهِرِ، إذ كان الأصلُ «رؤوف به» أو «بهم» ، وفائدةُ هذا الخروجِ أنَّ لفظَ «العباد» يُؤْذِنُ بالتشريفِ، أو لأنَّ فاصلةٌ فاخْتِير لذلك.

الدر المنثور للسيوطي

أخرج ابن مردويه عن صهيب قال ‏"‏لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش‏:‏ يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم‏:‏ أرأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فدفعت إليهم مالي فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ربح البيع صهيب مرتين‏"‏‏.‏
وأخرج ابن سعد والحرث بن أبي أسامة في مسنده وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال ‏"‏أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال‏:‏ يا معشر قريش قد علمتم إني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي فيه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي‏.‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ربح البيع، ربح البيع‏.‏ ونزلت ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد‏}‏"‏‏.‏
وأخرج الطبراني وابن عساكر عن ابن جريج في قوله ‏ {‏ومن الناس من يشري نفسه‏}‏ قال‏:‏ نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذر‏.‏
وأخرج ابن جرير والطبراني عن عكرمة في قوله ‏ {‏ومن الناس من يشري نفسه‏.‏‏.‏‏.‏‏} ‏ الآية‏.‏ قال ‏"‏نزلت في صهيب بن سنان، وأبي ذر الغفاري، وجندب بن السكن أحد أهل أبي ذر، أما أبو ذر فانفلت منهم، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع مهاجراً عرضوا له وكانوا بمر الظهران، فانفلت أيضاً حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأما صهيب فأخذه أهله فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجراً فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان، فخرج ممَّا بقي من ماله وخلى سبيله‏"‏‏.‏
وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن صهيب قال‏:‏ لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هممت بالخروج، فصدني فتيان من قريش ثم خرجت، فلحقني منهم أناس بعد ما سرت ليردوني، فقلت لهم‏:‏ هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي‏؟‏ ففعلوا‏.‏ فقلت‏:‏ احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها الأواقي، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء قبل أن يتحوّل منها، فلما رآني قال‏:‏ يا أبا يحيى ربح البيع، ثم تلا هذه الآية‏.‏
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه‏.‏‏.‏‏.‏‏} ‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ هم المهاجرون والأنصار‏.‏
وأخرج وكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ كنا في غزاة فتقدم رجل فقاتل حتى قتل، فقالوا‏:‏ ألقى بيده إلى التهلكة‏.‏ فكتب فيه إلى عمر، فكتب عمر‏:‏ ليس كما قالوا، هو من الذين قال الله فيهم ‏ {‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏}‏ ‏.‏
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن محمد بن سيرين قال‏:‏ حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه، فقالوا‏:‏ ألقى بيده‏.‏ فقال أبو هريرة ‏ {‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏}‏ ‏.‏
وأخرج البيهقي في سننه عن مدركة بن عوف الأحمسي‏.‏ أنه كان جالساً عند عمر فذكروا رجلاً شرى نفسه يوم نهاوند، فقال‏:‏ ذاك خالي زعم الناس أنه ألقى بنفسه إلى التهلكة‏.‏ فقال عمر‏:‏ كذب أولئك، بل هو من الذين اشتروا الآخرة بالدنيا‏.‏
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله ‏ {‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏} ‏ قال‏:‏ نزلت صهيب، وفي نفر من أصحابه، أخذهم أهل مكة فعذبوهم ليردوهم إلى الشرك بالله منهم: عمار، وأمية، وسمية، وأبو ياسر، وبلال، وخباب، وعباس مولى حويطب بن عبد العزى‏.‏
وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن صهيب
‏ ‏ "‏أن المشركين لما أطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا على الغار وأدبروا قال‏:‏ واصهيباه ولا صهيب لي‏.‏ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج بعث أبا بكر مرتين أو ثلاثاً إلى صهيب، فوجده يصلي فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وجدته يصلي، فكرهت أن أقطع عليه صلاته‏.‏ فقال‏: أصبت وخرجا من ليلتهما، فلما أصبح خرج حتى أتى أم رومان زوجة أبي بكر، فقالت‏:‏ ألا أراك ههنا وقد خرج أخواك ووضعا لك شيئاً من زادهما‏؟‏ قال صهيب‏:‏ فخرجت حتى دخلت على زوجتي أم عمرو، فأخذت سيفي وجعبتي وقوسي حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأجده وأبا بكر جالسين، فلما رآني أبو بكر قام إلي فبشرني بالآية التي نزلت فيّ، وأخذ بيدي فلمته بعض اللائمة، فاعتذر وربحني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏: ربح البيع أبا يحيى‏‏"
‏‏. وأخرج ابن أبي خيثمة وابن عساكر عن مصعب بن عبد الله قال ‏"‏ "هرب صهيب من الروم ومعه مال كثير، فنزل بمكة فعاقد عبد الله بن جدعان وحالفه، وإنما أخذت الروم صهيباً بن رضوى، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لحقه صهيب، فقالت له قريش‏:‏ لا تلحقه بأهلك ومالك فدفع إليهم ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏: ربح البيع‏. وأنزل الله في أمره ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏}‏ وأخوه مالك بن سنان"
‏"‏‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال‏:‏ كنت قاعداً عند عمر إذ جاءه كتاب‏:‏ أن أهل الكوفة قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا فكبر، فقلت‏:‏ اختلفوا‏.‏ قال‏:‏ من أي شيء عرفت‏؟‏ قال‏:‏ قرأت ‏ {‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيتين فإذا فعلوا ذلك لم يصبر صاحب القرآن، ثم قرأت ‏ { ‏وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإِثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد‏ } ‏[‏البقرة: 206‏]‏ ‏ {‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏} ‏ قال‏:‏ صدقت والذي نفسي بيده‏.‏
وأخرج الحاكم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال‏:‏ بينما ابن عباس مع عمر وهو آخذ بيده فقال عمر‏:‏ أرى القرآن قد ظهر في الناس‏؟‏ قلت‏:‏ ما أحب ذلك يا أمير المؤمنين‏.‏ قال‏:‏ لم‏؟‏ قلت‏:‏ لأنهم متى يقرأوا ينفروا، ومتى نفروا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يضرب بعضهم رقاب بعض‏.‏ فقال عمر‏: ‏إن كنت لأكتمها الناس‏.‏
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن ابن عباس قرأ هذه الآية عند عمر بن الخطاب فقال‏:‏ اقتتل الرجلان فقال له عمر‏:‏ ماذا‏؟‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين أرى ههنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإِثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإِثم قال هذا‏:‏ وأنا أشري نفسي فقاتله، فاقتتل الرجلان فقال عمر‏:‏ لله درك يا ابن عباس‏!‏
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة‏.‏ أن عمر بن الخطاب كان تلا هذه الآية ‏ {‏ومن الناس من يعجبك قوله‏}‏ إلى قوله ‏ {‏ومن الناس من يشري نفسه‏} ‏ قال‏:‏ اقتتل الرجلان‏.‏
وأخرج وكيع وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن أبي حاتم والخطيب عن علي بن أبي طالب‏.‏ أنه قرأ هذه الآية فقال‏:‏ اقتتلا ورب الكعبة‏.‏
وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن صالح أبي خليل قال‏:‏ سمع عمر إنساناً يقرأ هذه الآية ‏{‏وإذا قيل له اتق الله‏} ‏ إلى قوله {‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏} ‏ فاسترجع فقال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، قام الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل‏.‏
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال‏:‏ أنزلت هذه الآية في المسلم الذي لقي كافراً فقال له‏:‏ قل لا إله إلا الله، فإذا قلتها عصمت مني دمك ومالك إلا بحقهما، فأبى أن يقولها، فقال المسلم‏:‏ والله لأشرين نفسي لله فتقدم، فقاتل حتى قتل‏.‏

العذب النمير للشنقيطي

Tafseer Not Available

الكشاف للزمخشري

{يَشْرِى نَفْسَهُ} يبيعها أي يبذلها في الجهاد. وقيل: يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حتى يقتل، وقيل: نزلت في صهيب بن سنان: أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه، فقال لهم: أنا شيخ كبير، إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضرّكم، فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي. فقبلوا منه ماله وأتى المدينة {والله رَءوفٌ بالعباد} حيث كلفهم الجهاد فعرضهم لثواب الشهداء.

المحرر الوجيز لابن عطية

[سورة البقرة: آية 207].

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (207).

قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) الآية تتناول كل مجاهد في سبيل الله أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر، والظاهر من هذا التقسيم أن تكون الآيات قبل هذا على العموم في الكافر بدليل الوعيد بالنار ويأخذ العصاة الذين فيهم شيء من هذا الخلق بحظهم من وعيد الآية، ومن قال إن الآيات المتقدمة هي في منافقين تكلموا في غزوة الرجيع قال: هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع، ومن قال تلك في الأخنس قال: هذه في الأنصار والمهاجرين المبادرين إلى الإيمان.

وقال عكرمة وغيره: هذه في طائفة من المهاجرين، وذكروا حديث صهيب أنه خرج من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعته قريش لترده، فنثر كنانته، وقال لهم: تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلا، والله لأرمينّكم ما بقي لي سهم، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فقالوا له: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك ونتركك، فدلهم على ماله وتركوه، فهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال له: «ربح البيع أبا يحيى»، فنزلت فيه هذه الآية، ومن قال قصد بالأول العموم قال في هذه كذلك بالعموم، و (يَشْرِي) معناه يبيع، ومنه (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) [يوسف: 20]، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري: [مجزوء الكامل]:.

وشريت بردا ليتني   ***   من بعد برد كنت هامه.

وقال الآخر: [الكامل]:.

يعطى بها ثمنا فيمنعها   ***   ويقول صاحبه ألا تشري.

ومن هذا تسمى الشراة كأنهم الذين باعوا أنفسهم من الله تعالى، وحكى قوم أنه يقال شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال إن عزم صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله تعالى فتستقيم اللفظة على معنى باع.

وتأول هذه الآية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في مغيري المنكر، ولذلك قال علي وابن عباس: اقتتل الرجلان، أي قال المغير للمفسد: اتق الله، فأبى المفسد وأخذته العزة، فشرى المغير نفسه من الله تعالى وقاتله فاقتتلا.

وروي أن عمر بن الخطاب كان يجمع في يوم الجمعة شبابا من القراءة فيهم ابن عباس والحر بن قيس وغير هما فيقرؤون بين يديه ومعه، فسمع عمر ابن عباس رضي الله عنهم يقول: اقتتل الرجلان، حين قرأ هذه الآية، فسأله عما قال، ففسر له هذا التفسير، فقال له عمر: «لله تلادك يا ابن عباس».

وقال أبو هريرة وأبو أيوب حين حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقال قوم: ألقى بيده إلى التهلكة، ليس كما قالوا، بل هذا قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) الآية.

و (ابْتِغاءَ) مفعول من أجله، ووقف حمزة على (مَرْضاتِ) بالتاء والباقون بالهاء.

قال أبو علي: «وجه وقف حمزة بالتاء إما أنه على لغة من يقول طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر: [الرجز]:.

بل جوز تيهاء كظهر الحجفت.

وإما أنه لما كان المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما تثبت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد.

وقوله تعالى: (وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى: (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية.

المنتخب لعلماء الأزهر

فما أبعد الفرق بين هؤلاء المنافقين وبين المؤمنين الصادقين الذين يبيع أحدهم نفسه فى سبيل مرضاة الله ، وإعلاء كلمة الحق ، ويكون هذا النوع من الناس مقابلا للنوع الأول ، ويكون تولية أمراً من أمور الناس من رأفة الله بعباده ، والله تعالى يرحمهم بجعل الولاية لهؤلاء ليدفع بهم أذى الأشرار .

الوجيز للواحدي

{ومن الناس مَنْ يشري} أَيْ: يبيع {نفسه} يعني: يبذلها لأوامر الله تعالى {ابتغاء مرضاة الله} لطلب رضا الله نزلت في صهيب الرُّوميِّ

تفسير ابن أبي حاتم



قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ والله رؤف بالعباد
[الوجه الأول]

1939 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ صُهَيْبًا أَقْبَلَ مُهَاجِرًا نَحْو َالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَبِعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْش مُشْرِكُونَ، فَنَزَلَ وَانْتَثَلَ كِنَانَتَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَرْمَاكُمْ رَجُلا بِسَهْمٍ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِيَكُمْ بِكُلِّ سَهْمٍ فِي كِنَانَتِي، ثُمَّ أَضْرِبَكُمْ بِسَيْفِي، مَا بَقِيَ فِي يَدِي مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ شَأْنُكُمْ بَعْدُ. وَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى مَالِي بِمَكَّةَ، وَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟ قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَى مَالِكَ بِمَكَّةَ وَنُخَلِّي عَنْكَ، فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّهُمْ، وَأُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله والله رؤف بِالْعِبَادِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صُهَيْبًا، قَالَ لَهُ رسول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبِحَ الْبَيْعُ يا أبا نحيى- ربح البيع يا أبا نحيى ربح البيع يا أبا يحي. وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، يَعْنِي قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبَادِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، نَحْوُ ذَلِكَ

1940 - حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، ثنا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ كُنَّا فِي غَزَاةٍ، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَقَالُوا: أَلْقَى هَذَا بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَكُتِبَ فِيهِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ: لَيْسَ كَمَا قَالُوا، هُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ

الْوَجْهُ الثَّانِي:
1941 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، ثنا زُنَيْجٌ، ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدٍ مَوْلىً لآلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ أَيْ: قَدْ شَرَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ، حَتَّى هَلَكُوا عَلَى ذَلِكَ، يَعْنِي: السَّرِيَّةَ

الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
1942 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ، ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ قَالَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ.

قولهُ: وَاللَّهُ رؤف بالعباد
1943 - حدثنا أبو زرعة، ثنا نحيى ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: والله رؤف بِالْعِبَادِ يَعْنِي: يَرْأَفُ بِكُمْ.

تفسير ابن العثيمين


لما ذكر الله حال المنافقين الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا وهم ألد الخصام؛ والذين إذا تولوا سعوا في الأرض فساداً ليهلكوا الحرث، والنسل - والله لا يحب الفساد - ذكر حال قوم على ضدهم؛ وهكذا القرآن مثاني تثَنَّى فيه الأمور؛ فيؤتى بذكر الجنة مع النار؛ وبذكر المتقين مع الفجار... لأجل أن يبقى الإنسان في روضة متنوعة؛ ثم ليبقى الإنسان بين الخوف، والرجاء - لا يغلب عليه الخوف فيقنط من رحمة الله -؛ ولا الرجاء فيأمن مكر الله؛ فإذا سمع ذكر النار، ووعيدها، وعقوبتها أوجب له ذلك الخوف؛ وإذا سمع ذكر الجنة، ونعيمها، وثوابها أوجب له ذلك الرجاء؛ فترتيب القرآن من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى؛ وهو الموافق لإصلاح القلوب؛ ولهذا نرى من الخطأ الفادح أن يؤلف أحد القرآن مرتباً على الأبواب والمسائل كما صنعه بعض الناس؛ فإن هذا مخالف لنظم القرآن، والبلاغة، وعمل السلف؛ فالقرآن ليس كتاب فقه؛ ولكنه كتاب تربية، وتهذيب للأخلاق؛ فلا ترتيب أحسن من ترتيب الله؛ ولهذا كان ترتيب الآيات توقيفياً لا مجال للاجتهاد فيه؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت الآية قال: «ضعوا هذه الآية في مكان كذا من سورة كذا».
 قوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه }؛ هذا هو القسيم لقوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك...} [البقرة: 204] ؛ وعلى هذا تكون { مِن } للتبعيض؛ والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ و{ من يشري } مبتدأ مؤخر.
وقوله تعالى: { من الناس }: قال بعض المفسرين: إنها تعني شخصاً معيناً؛ وهو صهيب الرومي لما أراد أن يهاجر من مكة منعه كفارها، وقالوا: لا يمكنك أن تهاجر أبداً إلا أن تدع لنا جميع ما تملك؛ فوافق على ذلك، وأنقذ نفسه بالهجرة ابتغاء مرضاة الله؛ وقال بعض العلماء - وهم أكثر المفسرين -: بل هي عامة لكل المؤمنين المجاهدين في سبيل الله؛ قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} [التوبة: 111] ؛ وهذا القول أصح؛ وهو أنها للعموم حتى لو صح أن سبب نزولها قصة صهيب؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله تعالى: { من يشري نفسه } أي يبيعها؛ لأن «شرى» بمعنى باع، كقوله تعالى: {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20] أي باعوه بثمن بخس؛ أما «اشترى» فهي بمعنى ابتاع؛ فإذا جاءت التاء فهي للمشتري الآخذ؛ وإذا حذفت التاء فهي للبائع المعطي؛ و{ نفسه } يعني ذاته.
قوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله } أي طلباً لمرضات الله؛ فهي مفعول لأجله؛ و{ مرضات الله } أي رضوانه أي يبيع نفسه في طلب رضا الله عزّ وجلّ -؛ فيكون قد باع نفسه مخلصاً لله في هذا البيع.
قوله تعالى: { والله رؤوف } أي ذو رأفة؛ و«الرأفة» قال العلماء: هي أرق الرحمة، وألطفها؛ و{ بالعباد } أي جميعهم.
وفي قوله تعالى: { رؤوف } قراءتان؛ إحداهما: مد الهمزة على وزن فعول؛ والثانية قصرها على وزن فعُل.
الفوائد:
1- من فوائد الآية: تقسيم الناس إلى قسمين؛ القسم الأول: {ومن الناس من يعجبك قوله} [البقرة: 204] ؛ والقسم الثاني: { ومن الناس من يشري نفسه }.
2- ومنها: بلاغة هذا القرآن حيث يجعل الأمور مثاني؛ إذا جاء الكلام عن شيء جاء الكلام عن ضده.
3- ومنها: فضل من باع نفسه لله؛ لقوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله }.
4- ومنها: الإشارة إلى إخلاص النية؛ لقوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله }.
5- ومنها: إثبات الرضا لله؛ لقوله تعالى: { مرضات الله }؛ ورضا الله صفة حقيقية لله عزّ وجلّ متعلقة بمشيئته؛ وينكرها الأشاعرة وأشباههم من أهل التعطيل؛ ويحرفون المعنى إلى أن المراد برضا الله إما إثابته؛ أو إرادة الثواب.
6- ومنها: استحباب تقديم مرضاة الله على النفس؛ لأن الله ذكر ذلك في مقام المدح، والثناء.
7- ومنها: إثبات الرأفة لله؛ لقوله تعالى: { والله رؤوف بالعباد }.
8- ومنها: عموم رأفة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { بالعباد }؛ هذا إذا كان { العباد } بالمعنى العام؛ أما إذا قلنا بالمعنى الخاص فلا يستفاد ذلك؛ واعلم أن العبودية لها معنيان: خاص؛ وعام؛ والخاص له أخص؛ وهو خاص الخاص؛ فمن العام قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93]؛ وأما الخاص فمثل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} [الفرقان: 63] ؛ المراد بهم عباد الرحمن المتصفون بهذه الصفات؛ فيخرج من لم يتصف بها؛ وأما الأخص مثل قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ؛ هذه عبودية الأخص - عبودية الرسالة -.
 
------------------
الهوامش:
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 3/403، باب 215: بيان مشكل ما اختلف فيه عن عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الأنفال وبراءة وهل هما سورتان أو سورة واحدة.
 
 
 

تفسير ابن عرفة

قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله ... }. قيل: إنّها خاصة بصهيب وقيل عامة في كل مجاهد أو في كل آمر بالمعروف وناه عن المنكر. قال ابن عرفة: (يشري) على أنها خاصة (فعل حال وعلى العموم) مستقبل حقيقة و «النّاس» إمّا المؤمنون فقط أو المؤمنون والكافرون لأنه إذا تعارض العموم في جنس أقرب أو فيه وفي أبعد منه فالأقرب (أولى). «مَرْضَاتِ»: قال ابن عطية: وقف عليها حمزة بالتاء والباقون بالهاء. وتبعه أبو حيان وهو غلط إنما وقف عليها بالهاء الكسائي فقط. وعن ورش في إمالتها وجهان، والمشهور عدم الإمالة. قال ابن عرفة: وهو عندي منتقد على الشاطبي لأنه ذكر أنّ ورشا يميل ذوات الياء ثم عدها من ذوات الياء فضاهره إنه يميلها.
قوله تعالى: {والله رَءُوفٌ بالعباد}. المراد رؤوف بهم، أي بمن يشتري نفسه، أو المراد رؤوف بهم أي بشيء يشتري نفسه. والمراد رؤوف بالنّاس إذَا قلنا: إن الكافر مُنعَم عليه وذلك أنك إذا قلت: أنعم فلان على فلان. فإن أردت أنه أذهب عنه كل مؤلم فالكافر غير منعم عليه في الآخرة. وإن أردت أنه أذهب عنه مؤلما بالإطلاق فالكافر منعم عليه إذْ مَا مِنْ عذابٍ إلاّ وَفِي علم الله (ما هو) أشد منه. قال الزمخشري: «رؤوف بالعباد» حيث كلّفهم الجهاد فعرضهم لثواب (الشهداء). قال ابن عرفة: وهذا جار على مذهبنا لقوله «رؤوف» (فدل على) أَنّه لاَ يَجِبُ عليه مراعاة الأصلح وإنما ذلك محض (رأفة ورحمة) وتفضل. 

تفسير ابن كثير

وقوله "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل فتخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له ربح البيع فقال وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك فأخبروه أن الله أنزل هذه الآية. ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له "ربح البيع صهيب" قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن عبدالله بن رسته حدثنا سليمان بن داود حدثنا جعفر بن سليمان الضبي حدثنا عوف عن أبي عثمان النهدي عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبدا فقلت لهم أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "ربح صهيب ربح صهيب" مرتين وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أنى من أرماكم رجلا وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي قالوا نعم فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "ربح البيع" قال ونزلت "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد" وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم" ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد".

تفسير الجلالين

207 - (ومن الناس من يشري) يبيع (نفسه) أي يبذلها في طاعة الله (ابتغاء) طلب (مرضات الله) رضاه ، وهو صهيب لما آذاه المشركون هاجر إلى المدينة وترك لهم ماله (والله رؤوف بالعباد) حيث أرشدهم لما فيه رضاه

تفسير السعدي

[الآية رقم 207 ]
هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم.

تفسير الشعراوي

والله سبحانه وتعالى ساعة يستعمل كلمة "يشري" يجب أن نلاحظ أنها من الأفعال التي تستخدم في الشيء ومقابله، فـ "شرى" يعني أيضاً "باع". إذن، كلمة "شرى" لها معنيان، واقرأ إن شئت في سورة يوسف قولهتعالى: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [يوسف: 20].
أي باعوه بثمن رخيص. وتأتي أيضاً بمعنى اشترى، فالشاعر العربي القديم عنترة ابن شداد يقول:

فخاض غمارها وشرى وباعا.

إذن "شرى" لغة، تُستعمل في معنيين: إما أن تكون بمعنى "باع"، وإما أن تكون بمعنى "اشترى"، والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود منها فقول عنترة: "شرى وباع" نفهم أن المقصود من "شرى" هنا هو "اشترى"، لأنها مقابل "باع"، وقولهتعالى: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [يوسف: 20].
يوضحه سياق الآية بأنهم باعوه. وهذا من عظمة اللغة العربية، إنها لغة تريد أناساً يستقبلون اللفظ بعقل، ويجعلون السياق يتحكم في فهمهم للمعاني.
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة: 207] ونفهم "يشري" هنا بمعنى يبيع نفسه، والذي يبيع نفسه هو الذي يفقدها بمقابل. والإنسان عندما يفقد نفسه فهو يضحي بها، وعندها تكون التضحية ابتغاء مرضاة الله فهي الشهادة في سبيله عز وجل، كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة الله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ .. } [التوبة: 111].
إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم. إذن فقوله: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ} [البقرة: 207] يعني باع نفسه وأخذ الجنة مقابلاً لها، هذا إذا كان معنى "يشري" هو باع.
وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى بكل شيء في سبيل أن تَسلم نفسه الإيمانية. ومن العجب أن هذه الآية قيل في سبب نزولها ما يؤكد أنها تحتمل المعنيين، معنى "باع" ومعنى "اشترى" فها هو ذا أبو يحيى الذي هو صهيب بن سنان الرومي كان في مكة، وقد كبر سنه، وأسلم وأراد أن يهاجر، فقال له الكفار: لقد جئت مكة فقيراً وآويناك إلى جوارنا وأنت الآن ذو مال كثير، وتريد أن تهاجر بمالك.
فقال لهم: أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني؟
فقالوا: نعم.
قال: تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟
قالوا: لك هذا.
إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانياً بثروته، فلما ذهب إلى المدينة لقيه أبو بكر وعمر فقالا له: ربح البيع يا أبا يحيى.
قال: وأربح الله كل تجارتكم.
وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن جبريل أخبره بقصتك، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: ربح البيع أبا يحيى. إذن معنى الآية وفق هذه القصة: أنه اشترى نفسه بماله، وسياق الآية يتفق مع المعنى نفسه. وهذه من فوائد الأداء القرآني حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين.
ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى، ففي غزوة بدر، وهي أول غزوة في الإسلام، وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين في هذه الغزوة، وتمكن المسلمون من قتل بعض هؤلاء الصناديد، وأسروا منهم كثيرين أيضاً، وكان مِمَّنْ قتلوا في هذه الغزوة واحد من صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث ابن عامر والذي قتله هو صحابي اسمه خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي، وهو من قبيلة الأوس بالمدينة، وبعد ذلك مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إننا قد أسلمنا، ونريد أن ترسل إلينا قوماً ليعلمونا الإسلام. فأرسل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن، فغدر الكافرون بهؤلاء العشرة فقتلوهم إلا خبيب بن عدي، استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابي آخر اسمه زيد بن الدَّثِنّة، لكن خبيباً وقع في الأسر وعرف الذين أسروه أنه هو الذي قتل أبا عقبة الحارث في غزوة بدر، فباعوه لابن أبي عقبة ليقتله مقابل أبيه، فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه حياً، فلما تركه مصلوباً على الخشبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة: من ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟
قال الزبير: أنا يا رسول الله.
وقال المقداد: وأنا معه يا رسول الله.
فذهبا إلى مكة فوجدا خبيباً على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه، فانتهزا منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيباً وأخذاه، فلما أفاق القوم لم يجدوا خبيباً فقاموا يتتبعون الأثر ليلحقوا بمن خطفوه، فرآهم الزبير، فألقى خبيباً على الأرض، ثم نظر إليه فإذا بالأرض تبتلعه فسمى بليع الأرض. وبعد ذلك التفت إليهم ونزع عمامته التي كان يتخفى وراءها وقال: أنا الزبير بن العوام، أمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد، فإن شئتم فاضلتكم - يعني يفاخر كل منا بنفسه - وإن شئتم نازلتكم - يعني قاتلتكم - وإن شئتم فانصرفوا، فقالوا: ننصرف، وانصرفوا، فلما ذهب الزبير والمقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة التي صار إليها خبيب.
إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة. وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الآية إلى أبي يحيى صهيب بن سنان الرومي تكون "شرى" بمعنى اشترى، وإن ذهبت بسبب النزول إلى خبيب فتكون بمعنى: باع. وهكذا نجد أن اللفظ الواحد في القرآن الكريم يحتمل أكثر من واقع.
وخبيب بن عدي هذا قالت فيه ماويّة ابنة الرجل الذي اشتراه ليعطيه لعقبة ليقتله مقابل أبيه، قالت: والله لقد رأيت خبيباً يأكل قطفاً من العنب كرأس الإنسان! ووالله ما في مكة حائط - بستان - ولا عنب وإنما هو رزق ساقه الله له.
ولما جاءوا ليقتلوه قال: أنظروني أصلِّي ركعتين. فصلى ركعتين ونظر إلى القوم وقال: والله لولا أني أخاف أن تقولوا إنه زاد في الصلاة لكي نبطئ بقتله لزدت. وقال قبل أن يقتلوه: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. ثم هتف وقال:

ولسـت أبالـي حـين أُقـتل مسـلماًعـلى أي جـنـب كـان فـي الله مصـرعـي

وكان ذلك آخر ما قاله.
ويقول الحق: {وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ} [البقرة: 207] وما العلاقة بين ما سبق وبين رءوف بالعباد؟ ما دام الله رءوفاً بالعباد فلم يشأ الله أن يجعل ذلك أمراً كلياً في كل مسلم، وإنما جعلها فلتات لتثبت صدق القضية الإيمانية، لأنه لا يريد أن يضحي كل المسلمين بأنفسهم، وإنما يريد أن يستبقي منا أناساً يحملون الدعوة.
وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى أصناف الناس الذين يستقبلون الدعوة كفراً ونفاقاً، ومَنْ يقابلهم ممن يستقبلونها إيماناً خالصاً، نادى جميع المؤمنين فقال:
{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ...}.

تفسير الطبري

القول في تأويل قوله تعالى :  وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ 

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله:  إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ  [التوبة: 111].

* * *

وقد دللنا على أن معنى " شرى " باع، في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (48) 

* * *

وأما قوله: " ابتغاءَ مرضات الله " فإنه يعني أن هذا الشاري يشري إذا اشترى طلبَ مرضاة الله.

ونصب " ابتغاء " بقوله: " يشري"، فكأنه قال. ومن الناس من يَشري [نفسه] من أجل ابتغاء مرضاة الله، ثم تُرك " من أجل " وعَمل فيه الفعل.

وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل، (49) على " يشري"، كأنه قال: لابتغاء مرضاة الله، فلما نـزع " اللام " عمل الفعل، قال: ومثله:  حَذَرَ الْمَوْتِ  [البقرة: 19] (50) وقال الشاعر وهو حاتم:

< 4-247 >
وَأَغْفِــرُ عَــوْرَاءَ الكَـرِيمِ ادِّخَـارَهُ
  
 وَأُعْـرِضُ عَـنْ قَـوْلِ الَّلئِـيمِ تَكَرُّمَـا (51)
 


وقال: لما أذهب " اللام " أعمل فيه الفعل.

وقال بعضهم: أيُّما مصدر وُضع موضعَ الشرط، (52) وموضع " أن " فتحسن فيها " الباء " و " اللام "، فتقول: " أتيتك من خوف الشرّ -ولخوف الشر- وبأن خفتُ الشرَّ"، فالصفة غير معلومة، فحذفت وأقيم المصدرُ مقامها. (53) قال: ولو كانت الصفة حرفًا واحدًا بعينه، لم يجز حذفها، كما غير جائز لمن قال: " فعلت هذا لك ولفلان " أن يسقط" اللام ".

* * *

ثم اختلف أهل التأويل فيمن نـزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها. فقال بعضهم: نـزلت في المهاجرين والأنصار، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله.

* ذكر من قال ذلك:

4000 - حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله "، قال: المهاجرون والأنصار.
 
* * *

وقال بعضهم: نـزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم.

* ذكر من قال ذلك:

< 4-248 >
4001 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: " ومن الناس مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضات الله "، قال: نـزلت في صُهيب بن سنان، وأبي ذرّ الغفاري جُندب بن السَّكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ، فانفلت منهم، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع مهاجرًا عرَضوا له، وكانوا بمرِّ الظهران، فانفلت أيضًا حتى قدم على النبي عليه الصلاة والسلام. وأما صُهيب فأخذه أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرًا فأدركه قُنقذ بن عُمير بن جُدعان، فخرج له مما بقي من ماله، وخلَّى سبيله. (54)

4002 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " الآية، قال: كان رجل من أهل مكة أسلم، فأراد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة، فمنعوه وحبسوه، فقال لهم: أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلُّوا عني، فألحق بهذا الرجل ! فأبوْا. ثم إنّ بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء وخلُّوا عنه ! ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج; فأنـزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله "، الآية. فلما دنا من المدينة تلقاه عُمر في رجال، فقال له عمر: رَبح البيعُ! قال: وبيعك فلا يخسر! قال: وما ذاك ؟ قال: أنـزل فيك كذا وكذا. (55)

* * *

وقال آخرون: بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهادٍ في سبيله، أو أمرٍ بمعروف.

* ذكر من قال ذلك:

< 4-249 >
4003 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله، قال: حدثنا أبو عون، عن محمد، قال: حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده !! فقال أبو هريرة: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ". (56)

4004 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة، قال: بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من بجيلة، فقاتل، فقُتِل، فأكثر الناس فيه يقولون: ألقى بيده إلى التهلكة! قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: كذبوا، أليس الله عز وجل يقول: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد " ؟

4005 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، قال: حَمل هشام بن عامر على الصّف حتى شقَّه، فقال أبو هريرة: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ".

4006 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حزم بن أبي حزْم، قال: سمعت الحسن قرأ: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد "، أتدرون فيم أنـزلت ؟ نـزلت في أن المسلم لقي الكافرَ فقال له: " قل لا إله إلا الله "، فإذا قلتها عصمتَ دمك < 4-250 > ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرِيَنَّ نفسي لله! فتقدم فقاتل حتى قتل. (57)

4007 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زياد بن أبي مسلم، عن أبي الخليل، قال: سمع عُمر إنسانًا قرأ هذه الآية: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله "، قال: استرجع عُمر فَقال: إنا لله وإنا إليه رَاجعون! قام رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقُتل. (58)

* * *

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم، من أن يكون عُني بها الآمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر.

وذلك أن الله جل ثناؤه وصَف صفة فريقين: أحدهما منافقٌ يقول بلسانه خلافَ ما في نفسه، وإذا اقتدر على معصية الله ركبها، وإذا لم يقتدر رَامَها، وإذا نُهى أخذته العزّة بالإثمٌ بما هو به إثم، والآخر منهما بائعٌ نفسه، طالب من الله رضا الله. فكان الظاهر من التأويل أن الفريقَ الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه، إنما شراها للوثُوب بالفريق الفاجر طلبَ رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية.

وأما ما رُوي من نـزول الآية في أمر صُهيب، فإنّ ذلك غير مستنكرٍ، إذ كان غيرَ مدفوع جوازُ نـزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، والمعنيُّ بها كلُّ من شمله ظاهرها.

< 4-251 >
فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله عز وجل وصف شاريًا نفسَه ابتغاء مرضاته، فكل من باعَ نفسه في طاعته حتى قُتل فيها، أو استقتل وإن لم يُقتل، (59) فمعنيٌّ بقوله: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله "- في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى :  وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) 

قد دللنا فيما مضى على معنى " الرأفة "، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وأنها رقة الرحمة (60)

* * *

فمعنى ذلك: والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادَّه في أمره من أهل الشرك والفُسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته.

-------------------
الهوامش :
(44) السبحة : صلاة التطوع والنافلة وذكر الله ، تقول : "قضيت سبحتي" والمريد : قضاء وراء البيوت برتفق بهن كالحجرة في الدار وهو أيضًا موضع التمر يجفف فيه لينشف يسميه أهل المدينة مريدا وهو المراد هنا .
(45) ابن أخي عيينة ، هو الحر بن قيس بن حصين الفزاري ويقال : الحارث بن قيس والأول أصح . وروى البخاري من طريق الزهري عن عبيد اله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر - الحديث . ترجم في الإصابة وغيرها .
(46) في المطبوعة : "لله تلادك" بالتاء في أوله ولا معنى له ، والصواب ما أثبت . وفي الدر المنثور 1 : 241 -"لله درك" . والعرب تقول : "لله در فلان ، ولله بلاده" .
(47) انظر الأثر رقم : 3961 .
(48) انظر ما سلف 2 : 341- 343ن 455 وفهارس الغة .
(49) قوله : "على الفعل" أي أنه مفعول لأجله وقد مضى مثله"على التفسير للفعل" 1 : 354 تعليق : 4 .
(50) انظر القول في إعراب هذه الكلمة فيما سلف 1 : 354- 355 .
(51) ديوانه : 24 ، من أبيات جياد كريمة وسيبويه 1 : 184 ، 464 ونوادر أبي زيد : 110ن الخزانة 1 : 491 والعيني 3 : 75 وغيرها . وفي البيت اختلاف كثير في الرواية ، والشاهد فيه نصب"ادخاره" على أنه مفعول له .
(52) قوله : "الشرط" كأنه فيما أظن أراد به معنى العلة والعذر يعني أنه علة وسببًا أو عذرًا لوقوع الفعل .
(53) "الصفة" هي حرف الجر . وانظر ما سلف آنفًا 1 : 299 وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة .
(54) الأثر : 4001 - في الدر المنثور 1 : 240 ، في المطبوعة : "منقذ بن عمير" وهو خطأ وقد ذكر قنفد بن عمير ، أبو طالب في قصيدته المشهورة وذكر ابن هشام نسبه في سيرته (انظر 1 : 295 ، 301) . وقد أسلم قنفد بن عمير ، وله صحبة ، وولاه عمر مكة ، ثم عزله .
(55) الأثر : 4002 - في تفسير البغوي 1 : 481- 482 ، مع اختلاف في اللفظ .
(56) الأثر : 4003 - حسين بن الحسن أبو عبد الله النصري روى عن ابن عون وغيره ، وروى عنه أحمد والفلاس وبندار وغيرهم . كان من المعدودين من الثقات وكان يحفظ عن ابن عون . توفي سنة 188ن مترجم في التهذيب . و"أبو عون" كنية"ابن عون" - عبد الله بن عون المزني مولاهم . "ومحمد" هو محمد بن سيرين وهشام بن عامر بن أمية الأنصاري كان اسمه في الجاهلية"شهابًا" فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان ذلك منه في غزاة كابل انظر الإصابة وغيرها . وقوله : "ألقى بيده" أي : ألقى بيده إلى التهلكة ، كما هو مبين في الروايات الأخرى ، وانظر ما سيأتي رقم : 4005 ، مختصرًا .
(57) الأثر : 4006 -"حزم بن أبي حزم" القطعي أبو عبد الله البصري روى عن الحسن وغيره ، قال أبو حاتم : صدوق لا بأس به ، وهو من ثقات من بقى من أصحاب الحسن ، مات سنة 75 . مترجم في التهذيب . وكان في المطبوعة : "حزام بن أبي حزم" وهو خطأ .
(58) الأثر : 4007 -"زياد بن أبي مسلم" أبو عمر الفراء البصري ، روى عن صالح أبي الخليل وأبي العالية والحسن . مترجم في التهذيب . "وأبو الخليل" : صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم تابعي ، مترجم في التهذيب .
(59) في المطبوعة : "واستقتل" بواو العطف ، وهو فاسد ، والصواب ما أثبت .
(60) انظر ما سلف 3 : 171 ، 172 .

تفسير العز ابن عبد السلام

.

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏‏}‏

‏{‏يَشْرِى‏}‏ يبتع، نزلت فيمن أمر بمعروف ونهى عن منكر فقتل، أو في صهيب اشترى نفسه من المشركين بجميع ماله ولحق بالمسلمين، وقال الحسن‏:‏ العمل الذي باع به نفسه الجهاد‏.‏

تفسير القرطبي

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " " ابتغاء " نصب على المفعول من أجله . ولما ذكر صنيع المنافقين ذكر بعده صنيع المؤمنين . قيل : نزلت في صهيب فإنه أقبل مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش , فنزل عن راحلته , وانتثل ما في كنانته , وأخذ قوسه , وقال : لقد علمتم أني من أرماكم , وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي , ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء , ثم افعلوا ما شئتم . فقالوا : لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا , ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك , وعاهدوه على ذلك ففعل , فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " الآية , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ربح البيع أبا يحيى ) , وتلا عليه الآية , أخرجه رزين , وقاله سعيد بن المسيب رضي الله عنهما . وقال المفسرون : أخذ المشركون صهيبا فعذبوه , فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير , لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم , فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟ ففعلوا ذلك , وكان شرط عليه راحلة ونفقة , فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ورجال , فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى . فقال له صهيب : وبيعك فلا يخسر , فما ذاك ؟ فقال : أنزل الله فيك كذا , وقرأ عليه الآية . وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية , نزلت في المسلم لقي الكافر فقال له : قل لا إله إلا الله , فإذا قلتها عصمت مالك ونفسك , فأبى أن يقولها , فقال المسلم : والله لأشرين نفسي لله , فتقدم فقاتل حتى قتل . وقيل : نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر , وعلى ذلك تأولها عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم , قال علي وابن عباس : ( اقتتل الرجلان , أي قال المغير للمفسد : اتق الله , فأبى المفسد وأخذته العزة , فشرى المغير نفسه من الله وقاتله فاقتتلا ) . وقال أبو الخليل : سمع عمر بن الخطاب إنسانا يقرأ هذه الآية , فقال عمر : ( إنا لله وإنا إليه راجعون , قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل ) . وقيل : إن عمر سمع ابن عباس يقول : ( اقتتل الرجلان عند قراءة القارئ هذه الآية ) , فسأل عما قال ففسر له هذا التفسير , فقال له عمر , ( لله تلادك يا ابن عباس ) ! وقيل : نزلت فيمن يقتحم القتال . حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقاتل حتى قتل , فقرأ أبو هريرة : "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " , ومثله عن أبي أيوب . وقيل : نزلت في شهداء غزوة الرجيع . وقال قتادة : هم المهاجرون والأنصار . وقيل : نزلت في علي رضي الله عنه حين تركه النبي صلى الله عليه وسلم على فراشه ليلة خرج إلى الغار , على ما يأتي بيانه في " براءة " إن شاء الله تعالى . وقيل : الآية عامة , تتناول كل مجاهد في سبيل الله , أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر . وقد تقدم حكم من حمل على الصف , ويأتي ذكر المغير للمنكر وشروطه وأحكامه في " آل عمران " إن شاء الله تعالى . و " يشري " معناه يبيع , ومنه " وشروه بثمن بخس " [ يوسف : 20 ] أي باعوه , وأصله الاستبدال , ومنه قوله تعالى : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " [ التوبة : 111 ] . ومنه قول الشاعر : وإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى شروا هذه الدنيا بجناته الخلد وقال آخر : وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه البرد هنا اسم غلام . وقال آخر : يعطى بها ثمنا فيمنعها ويقول صاحبها ألا فأشر وبيع النفس هنا هو بذلها لأوامر الله . " ابتغاء " مفعول من أجله . ووقف الكسائي على " مرضات " بالتاء , والباقون بالهاء . قال أبو علي : وقف الكسائي بالتاء إما على لغة من يقول : طلحت وعلقمت , ومنه قول الشاعر : بل جوزتيهاء كظهر الحجفت وإما أنه لما كان هذا المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما ثبتت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد . والمرضاة الرضا , يقال : رضي يرضى رضا ومرضاة . وحكى قوم أنه يقال : شرى بمعنى اشترى , ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب , لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها , اللهم إلا أن يقال : إن عرض صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله . فيستقيم اللفظ على معنى باع .

تفسير الماوردي

قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ } يشري نفسه أي يبيع ، كما قال تعالى : { وَشَرَوهُ بثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] أي باعوه ، قال الحسن البصري : العمل الذي باع به نفسه الجهاد في سبيل الله .
واخْتُلِفَ فيمن نزلت فيه هذه الآية ، على قولين :
أحدهما : نزلت في رجل ، أمر بمعروف ونهى عن منكر ، وقتل ، وهذا قول علي ، وعمر ، وابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في صُهيب بن سنان اشترى نفسه من المشركين بماله كله ، ولحق بالمسلمين ، وهذا قول عكرمة .

تفسير المراغي

[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)

تفسير المفردات
يقال أعجبه الشيء أي راقه واستحسنه ورآه عجبا أي طريفا جديدا غير مبتذل، وتقول العرب: الله يشهد أو الله يعلم أنى أريد كذا، تقصد بذلك الحلف واليمين كما قال تعالى حكاية عن رسل عيسى: «قالوا ربّنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون» واللدد شدة الخصومة، والخصام الجدال، وتولى أي أدبر وانصرف عن مجلسك، والسعي السير السريع بالأقدام والمراد به هنا الجد في العمل والكسب، ويهلك أي يضيع، والحرث الزرع، والنسل ما تناسل من الحيوان، والمراد من إهلاكهما الإيذاء الشديد، أخذته أي لزمته، والعزة في الأصل خلاف الذل والمراد بها هنا الأنفة والحميّة، بالإثم أي على الذنب الذي نهى عنه واسترسل في فعله، حسبه أي كافيه، والمهاد الفراش يأوى إليه المرء للراحة، ويشرى أي يبيع ويبذل ابتغاء أي طلبا.

المعنى الجملي
دلت الآيات السابقة على أن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله بإصلاح القلوب وإنارتها بذكره تعالى، لاستشعارها عظمته وفضله، وعلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافى التقوى بل يعين عليها، خلافا لما ذهب إليه أهل الأديان السابقة
من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أسّ الدين وأصله، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق.
ولما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان:
منافقون يظهرون غير ما يبطنون، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله، ولا يريدون إلا وجهه.

الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ومن الناس فريق يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة الدنيا، لأنك تأخذ بالظواهر، وهو منافق يظهر غير ما يضمر ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة اللسان، فى غش المعاشرين والأقران، ويوهم أنه صادق الإيمان، نصير للحق خاذل للباطل، متّق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن.
(وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي ويحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي.
(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي وهو قوى في الجدل لا يعجزه أن يغشّ الناس بما يظهر من الميل إليهم والسعى في إصلاح شئونهم.
والخلاصة- إن هذا الفريق يركن في خداعه للناس إلى أمور ثلاثة:
(1) حسن القول بحيث يعجب السامع ويملك لبه، بحيث لا يتهمه في صدقه.
(2) إشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده.
(3) قوة العارضة في الجدل عند محاجة المنكر أو المعارض.
ومثل هذا الفريق يوجد في كل أمة وكل عصر وإن اختلفت حاله باختلاف العصور، فحينا ترى الواحد لا يغشّ بزخرف قوله إلا فردا أو أفرادا معدودين وحينا يتسنى له أن يخدع أمة وينكل بها تنكيلا، فترى الجرائد في عصرنا قد تكون سبيلا للغش، كما تكون أحيانا طريقا للنصح وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرها وفلاحها
ولا سيما إذا كان الكاتبون فيها ممن تثق بهم الدهماء، ويتقبل الجمهور آراءهم بالتسليم والاطمئنان.
(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) أي إن مثل هؤلاء إذا أعرضوا عن مخاطبيهم وذهبوا لشأنهم، فإن سعيهم يكون على ضد ما قالوا، فهم يدّعون الصلاح والإصلاح ثم يسعون في الأرض بالفساد، إذ لا همّ لهم إلا اللذات والحظوظ الدنيئة التي لأجلها يعادون أرباب الفضيلة، ويكونون من ذوى اللدد والخصومة لهم، لما بينهم من التناقض في السجايا والغرائز، بل يعادون أمثالهم من المفسدين، إذ من دأبهم الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم.
وقوله في الأرض يفيد العموم أي إنهم في أي مكان يحلون فيه يفسدون.
(وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) أي إنه دائب على إفساده مسترسل فيه ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل، وهكذا شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خربت الدنيا بأسرها.
وفي ذلك عبرة للذين يقتلعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره، انتقاما ممن يكرهونهم، فأين منهم هدى الإسلام وهدى القرآن.
ويرى بعضهم أن المراد بالحرث النساء كما في قوله: «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ» وبالنسل الأولاد، فيكون المراد- إن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقونه من الفتن ويدأبون عليه من التفريق- لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب، فهم يؤذون أنفسهم وأهليهم بضروب من الإيذاء قد يعميهم الغرور عنها، أو عن كونها من سعيهم.
(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أي والله لا يرضى الفساد ولا يحبه، فلا يحب المفسدين، وفي الآية إيماء إلى أن تلك الصفات المحمودة في الظاهر لا تكون مرضية عند الله إلا إذا أصلح صاحبها عمله، لأن الله لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.
(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي إن ذلك المفسد إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر أسرع إليه الغضب، وعظم عليه الأمر وأخذته الأنفة وطيش السفه، إذ يخيل إليه أن النصح والإرشاد ذلة تنافى العزة التي تليق بأمثاله.
وفي طبع المفسدين النفور ممن يأمرهم بالصلاح، إذ يرون في ذلك تشهيرا بهم وإعلانا لمفاسدهم التي يسترونها بزخرف القول وخلابته، وإن استطاعوا الحبس حبسوا أو ضربوا أو قتلوا.
(فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي إن النار مصيره ويكفيه عذابها جزاء له على كبريائه وحميته حمية الجاهلية، وستكون مهاده ومأواه، وهى بئس المهاد وشره، فلا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها.
قيل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: اتق الله، فوضع خده على الأرض، وقال ابن مسعود: من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد اتق الله، فيقول: عليك نفسك أي أصلح نفسك ولا تصلح غيرك.
ثم ذكر الفريق الآخر فقال:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) أي ومن الناس فريق يبيع نفسه لله لا يبغى ثمنا لها غير مرضاته، ولا يتحرى إلا صالح العمل وقول الحق مع الإخلاص فيهما، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر عرض الدنيا وزخرفها على ما عند ربه.
وهذا البيع لا يتحقق إلا إذا جاد المؤمن بنفسه وما له في سبيل الله إذا دعت الضرورة إلى ذلك، كجهاد أعداء الأمة عند الاعتداء عليها، أو الاستيلاء على شيء من أرضها، فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه ذلك، ومن قدر عليه بماله وجب عليه ذلك، وإن قدر عليهما معا وجب عليه، فإن قصر في شىء من ذلك فقد آثر نفسه على مرضاة الله وخرج من زمرة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله.
(وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فيجازيهم على العمل القليل نعيما دائما، ولا يكلفهم
إلا ما في وسعهم عمله، ويشترى منهم أموالهم لأنفسهم وهى ملكه تعالى بما لا يعدّ ولا يحصى من رحمته وإحسانه وكرمه، ويرفع هممهم ليبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده، وتقرير الحق والعدل فيهم، ولولا ذلك لغلب شرّ المفسدين في الأرض، فلا يبقى فيها صلاح كما قال تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» .

تفسير المنار

أرشدتنا آيات المناسك السابقة إلى أن المراد منها ومن كل العبادات هو تقوى اللهتعالى بإصلاح القلوب، وإنارة الأرواح بنور ذكر اللهتعالى واستشعار عظمته وفضله، وإلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها بل هو مما يهدي إليه الدين خلافا لأهل الملل السابقة الذين ذهبوا إلى أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أصل الدين وأساسه، وإلى أن من يطلب الدنيا من كل وجه ويجعل لذاتها أكبر همه ليس له في الآخرة من خلاق; لأنه مخلد إلى حضيض البهيمية لم تستنر روحه بنور الإيمان ولم يرتق عقله في معارج العرفان. ولما كان محل التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب الأعمال دون مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان، فكانت هذه متصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز وهو إصلاح القلوب، واختلاف أحوال الناس فيها، وما ينبغي أن يعلموه منها، ولذلك عطفها عليها فقال:
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} يقال أعجبه الشيء إذا راقه واستحسنه ورآه عجبا; أي: طريفا غير مبتذل، والخطاب عام، وفي قوله: {في الحياة الدنيا} وجهان أحدهما أن من الناس فريقا يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة; لأنك تأخذ بالظواهر وهو منافق اللسان يظهر خلاف ما يضمر، ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة لسانه، في غش معاشريه وأقرانه، يوهمهم أنه مؤمن صادق، نصير للحق والفضيلة، خاذل للباطل والرذيلة، متق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن، لا يريد للناس إلا الخير، ولا يسعى إلا في سبيل النفع {ويشهد الله على ما في قلبه} أي: يحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي. وفي معنى الحلف أن يقول الإنسان: الله يعلم أو يشهد بأنني أحب كذا وأريد كذا. قالتعالى: {قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون} [يس: 16] وهو تأكيد معروف في كلام العرب:

أليس الله يعلم أن قلبي يحبك أيها البرق اليماني

وقال العلماء: إن هذا آكد من اليمين، وعن بعض الفقهاء أن من قاله كاذبا يكون مرتدا; لأنه نسب الجهل إلى اللهتعالى. وأقول: إن أقل ما يدل عليه عدم المبالاة بالدين ولو لم يقصد صاحبه نسبة الجهل إلى الله عز وجل فهو قول لا يصدر إلا عن المنافقين الذين { يخادعون الله والذين آمنوا } [البقرة: 9] فإن أحدهم ليبالغ في الخلابة والتودد إلى الناس بالقول {وهو ألد الخصام} أي: وهو في نفسه أشد الناس مخاصمة وعداوة لمن يتودد إليهم، أو هو أشد خصمائهم، على أن الخصام جمع خصم ككعاب جمع كعب وهو المختار، واللدد شدة الخصومة ولدد (كتعب) الرجل لازم، ولدد خصمه (كنصر) شدد خصومته، ولاده للمشاركة. وفيه وجه آخر قاله بعضهم وهو أن الخصام بمعنى الجدال; أي: وهو قوي العارضة في الجدل لا يعجزه أن يختلب الناس ويغشهم بما يظهر من الميل إليهم وإسعادهم في شئونهم ومصالحهم. قال صاحب هذا القول: فالأوصاف المحمودة التي يعتمد عليها ثلاثة: حسن القول بحيث يعجب السامع، وإشهاد اللهتعالى على صدقه وحسن قصده، وفي معناه ما هو من ضروب التأكيد الذي يقبله خالي الذهن، وقوة العارضة في الجدل التي يحاج بها المنكر أو المعارض، وأما بيان سوء حاله وفساد أعماله، فهو في الآيتين التاليتين وقد مهد لهما بقولهتعالى: {في الحياة الدنيا} والتمهيد في بداية الكلام للمراد منه في غايته من ضروب البلاغة وأفنانها.
هذا الفريق من الناس يوجد في كل أمة، وتختلف الخلابة اللسانية في الأمم باختلاف الأعصار، ففي بعض الأزمنة لا يتيسر للواحد أن يغش بزخرف القول إلا الفرد أو الأفراد المعدودين، وفي بعضها يتيسر له أن يغش الأمة في مجموعها حتى ينكل بها تنكيلا وإن الجرائد في عصرنا هذا قد تكون طريقا للغش العام، كما تكون طريقا للنصح العام، وإنما يكون تلبيسها سهلا على من يعجب العامة قولهم في الأمم التي يغلب فيها الجهل لا سيما في طور الانتقال من حال إلى حال; إذ تختلف ضروب الدعوة وطرق الإرشاد.
وفي الآية وجه آخر ذهب إليه بعض المفسرين وهو أن الظرف {في الحياة الدنيا} متعلق بالقول قبله; أي: يعجبك قوله إذا تكلم في شئون الحياة الدنيا وأحوالها، وطرق جمع المال وإحراز الجاه فيها; لأن حبها قد ملك عليه أمره، والميل إلى لذاتها وشهواتها قد استحوذ على قلبه، وصار هو المصرف لشعوره ولبه، فينطلق لسانه - ومثله قلمه - في كل ما يستهوي أصحاب الجاه والمال، ويستميل أهل السيادة والسلطان، ولكنه إذا تكلم في أمر الدين جاء بالخطل والحشو، ووقع في العسلطة واللغو، فلا يحسن وقع قوله في السمع، ولا يكون له تأثير في النفس وذلك أن روح المتكلم تتجلى في قوله، وضميره المكنون يظهر في لحنه
{ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم } [محمد: 30] وفي الحكم: {كل كلام يبرز عليه كسوة من القلب الذي عنه صدر} ولهذا كان إرشاد المخلصين نافعا، وخداع المنافقين صادعا.
وعلى هذا الوجه في التفسير تكون جملة {ويشهد الله} وصفا مستقلا غير حال مما قبله; أي: أنه لا يحسن إلا الكلام في الدنيا ليعجب السامع ويخدعه، ولكنه يزعم أن قلبه مع الله، وأنه حسن السريرة، وإنك لترى هذا في سيرة المجرمين ظاهرا جليا كما وصف اللهتعالى: يتركون الصلاة، ويمنعون الزكاة، ويشربون الخمور، ويتسابقون إلى الفجور، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ثم يفضلون أنفسهم في الدين على أهل النزاهة والتقوى، زاعمين أن هؤلاء المتقين قد عمرت ظواهرهم بالعمل والإرشاد، ولكن بواطنهم خربة بسوء الاعتقاد، ويقولون: نعم إننا نحن نأكل الربا أو القمار ولكنا نحرمه، ونأتي في نادينا وخلوتنا المنكر ولكنا لا نستحسنه، وأن ما نبتزه من جيوب الأغنياء بخلابتنا ليس المقصود به ترفيه معيشتنا، وإنما هو أجر على السعي في إعلاء شأنهم، ومكافأة على خدمة أوطانهم. فهم بهذه الدعاوى ألد الخصماء، ألا إنهم هم السفهاء، فقد جرت سنة اللهتعالى في خلقه، ودلت هدايته في كتابه، على أن سلامة الاعتقاد وإخلاص السريرة هما ينبوع الأعمال الصالحة، والأقوال النافعة {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} [الأعراف: 58].
وانظر ما قاله عز شأنه، في وصف فريق هذه الدعاوى العريضة، والقلوب المريضة، قال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها}. في تفسير التولي هنا قولان: أحدهما: أن صاحب الدعوى القولية إذا أعرض عن مخاطبه وذهب إلى شأنه فإن سعيه يكون على ضد ما قال، يدعي الصلاح والإصلاح وحب الخير، ثم هو يسعى في الأرض بالفساد; ذلك أنه لا هم له إلا في الشهوات واللذات والحظوظ الخسيسة، فهو يعادي لأجلها أهل الحق والفضيلة ويؤذيهم; لأنه ألد خصم لهم للتناقض والتضاد في الغرائز والسجايا، ويعادي أيضا المزاحمين له فيها من أمثاله المفسدين، فلا يكون له هم وراء التمتع وأسبابه إلا الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم، فهو يفسد باعتدائه على الأموال والأعراض {ويهلك الحرث والنسل} بما يكون من أثر إفساده في اعتدائه، وهو ذهاب ثمرات الحرث: وهو الزرع، والنسل: وهو ما تناسل من الحيوان، وكأنه إشارة إلى مكاسب أهل الحضارة وأهل البادية، وفي هذا عبرة كبرى للذين يقطعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره انتقاما ممن يكرهونهم، وهي جرائم فاشية في أرياف مصر لهذا العهد، فأين الإسلام وأين هداية القرآن؟ وذكر الأزهري أن المراد بالحرث ههنا: النساء كما في قوله:
{ نساؤكم حرث لكم } [البقرة: 223] وبالنسل: الأولاد، وهل المراد نساء الناس وأولادهم، أم نساء المفسدين وأولادهم خاصة؟ لعل الأمر أعم; فإن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقون من الفتن ويعملون من التفريق لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب ظاهرا وباطنا أو باطنا فقط، فالمفسد الشرير يؤذي نفسه وأهله بضروب من الإيذاء قد يعميه الغرور عنها أو عن كونها من سعيه. وقال الأستاذ الإمام: إن إهلاك الحرث والنسل عبارة عن الإيذاء الشديد وقد صار التعبير به عن ذلك من قبيل المثل، فالمعنى أنه يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل، وكذلك شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خرب الملك بإرضائها.
والقول الآخر: أن المراد بتولى صار واليا له حكم ينفذ وعمل يستبد به، وإفساده حينئذ يكون بالظلم مخرب العمران وآفة البلاد والعباد، وإهلاكه الحرث والنسل يكون إما بسفك الدماء والمصادرة في الأموال، وإما بقطع آمال العاملين من ثمرات أعمالهم وفوائد مكاسبهم. ومن انقطع أمله انقطع عمله، إلا الضروري الذي به حفظ الدماء، ولا حرث ولا نسل إلا بالعمل. وقد شرحت لنا حوادث الزمان وسير الظالمين هذه الآية فقرأنا وشاهدنا أن البلاد التي يفشو فيها الظلم تهلك زراعتها، وتتبعها ماشيتها، وتقل ذريتها، وهذا هو الفساد والهلاك الصوريان، ويفشو فيها الجهل، وتفسد الأخلاق، وتسوء الأعمال حتى لا يثق الأخ بأخيه، ولا يثق الابن بأبيه فيكون بأس الأمة بينها شديدا ولكنها تذل وتخنع للمستعبدين لها. وهذا هو الفساد والهلاك المعنويان، وفي التاريخ الغابر والحاضر من الآيات والعبر، ما فيه ذكرى ومزدجر.
ولما كان هذا المفسد يشهد الله على هداية قلبه، عند من يظن أنه يجهل حقيقة أمره، قالتعالى بعد بيان عمله في الإفساد: {والله لا يحب الفساد} أي: إن إفساد هذا المنافق ظاهر في الوجود، والظاهر عنوان الباطن، فإفساده في عمله دليل على فساد قلبه وكذبه في إشهاد الله عليه
{ والله لا يحب المفسدين } [المائدة: 64] لأنه لا يحب الفساد. وفي الآية دليل على أن تلك الصفات الظاهرة المحمودة، لا تكون محمودة مرضية عند اللهتعالى إلا إذا أصلح صاحبها عمله فإن اللهتعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، وهي ترشدنا إلى التمييز بين الناس بأعمالهم وسيرتهم وعدم الاغترار بزخرف القول، فإن الناس إذا انصرفوا من مجالس القول لم يكن لهم بد من سعي وعمل، والعمل إما خير وإصلاح، وإما شر وإفساد، وكل إناء ينضح بما فيه.
ولما كان الإفساد يصدر تارة عن الجهل وسوء الفهم، وأحيانا عن فساد الفطرة وسوء القصد، وكان من يعمل السوء بجهالة سريع التوبة، مبادرا إلى قبول النصيحة، وكان شأن الآخر الإصرار على ذنبه، كالمستهزئ بربه، ذكر من صفة المفسد ما يميز بينه وبين المخطئ، فقال: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} أي: أنه إذا أمر بمعروف أو نهي عن منكر يسرع إليه الغضب، ويعظم عليه الأمر، فتأخذه الكبرياء والأنفة، وتخطفه الحمية وطيش السفه، فيكون كالمأخوذ بالسحر، لا يستقيم له فكر; لأنه مصر على إفساده لا يبغي عنه حولا. وعبر عن الكبرياء والحمية بالعزة; للإشعار بوجه الشبهة للنفس الأمارة بالسوء وهو تخيلها النصح والإرشاد ذلة تنافي العزّة المطلوبة.
قال شيخنا: هذا الوصف ظاهر جدا في تفسير التولي بالولاية والسلطة، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة، أو يحذر من مفسدة; لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلى الناس رأيا وأرجحهم عقلا، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف اللهتعالى يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرا من جودة آرائهم، وإفساده نافذا مقبولا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له: اتق الله في كذا؟ وإن الأمير منهم ليأتي أمرا فيظهر له ضرره في شخصه أو في ملكه ويود لو يهتدي السبيل إلى الخروج منه، فيعرض له ناصح يشرع له السبيل فيأبى سلوكها، وهو يعلم أن فيها النجاة والفوز إلا أن يحتال الناصح في إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم، ولا بأن السيد المطاع في حاجة إليه.
وقد عرضت نصيحة على بعضهم مع ذكر لفظ النصيحة بعد تمهيد له بالحديث "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وبيان معناه، فعظم عليه أن يقول أحد: إنني أنصح لك ولأنك إمامي، وكان ذلك آخر عهد الناصح به، فانظر كيف لم يرض حاكم مسلم بأن يبذل له ما يجب أن يبذل لله ولرسوله وللأئمة، وقد كان العلماء ينصحون للخلفاء والملوك المسلمين، فيأخذون بالنصح بحسب مكانهم من الدين، وأما الطغاة البغاة الذين ليس لهم من الإسلام إلا ما يخدعون به العامة من إتيان المساجد في الجمع والأعياد والمواسم المبتدعة، فإنهم يؤذون من يشير إشارة ما إلى أنهم في حاجة إلى تقوى الله في أنفسهم، أو في عيال الله الذين سلطوا عليهم، وإن لم يبق لهم من السلطان والحكم ما يمكنهم من كل ما يهوون من الإفساد والظلم، وإذا كان هذا شأن أكثر الملوك والأمراء الذين ينسبون إلى الدين ويدعون اتباعه، فهل تجد دعوى فرعون الألوهية غريبا عجيبا؟
وحمل التولي على الوجه الآخر لا يتنافى مع أخذ العزة بالإثم من جراء الأمر بالتقوى، فإن في طبع كل مفسد النفور ممن يأمره بالصلاح والاحتماء عليه; لأنه يرى أمره بالتقوى والخير تشهيرا به، وصرفا لعيون الناس إلى مفاسده التي يسترها بزخرف القول وخلابته، ولكن التعبير أظهر في إرادة الولاة والسلاطين. وقد يبلغ نفور المفسدين في الأرض من الحق والداعين إلى الخير إلى حد استثقالهم والحقد عليهم، والسعي في إيذائهم وإن لم يأمروهم بذلك; إذ يرون أن الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر - على إطلاقهما - كافيان في فضيحتهم، وذاهبان بخلابتهم، فلا يطيقون رؤية دعاة الخير ولا يرتاحون إلى ذكرهم، بل يتتبعون عوراتهم وعثراتهم ليوقعوا بهم وينفروا الناس عن دعوتهم، فإن لم يظفروا بزلة ظاهرة التمسوها بالتحريف والتأول، أو الاختراع والتقول; ولذلك تجد طعن المفسدين في الأئمة المصلحين من قبيل طعن الكافرين في الأنبياء والمرسلين، إن فلانا مغرور لا يعجبه أحد، خطأ جميع الناس، وصفهم بالضلال، سفه أحلامهم، شنع على أعمالهم، فرق بينهم، وما أشبه هذا.
هذه آثار المفسدين في الأرض عند العجز عن الإيقاع بالآمر بالتقوى، وإن قدروا حبسوا وضربوا، ونفوا وقتلوا، ولذلك قال عز وجل فيمن يأنف من الأمر بالتقوى: {فحسبه جهنم} أي: هي مصيره، وكفاه عذابها جزاء على كبريائه وحميته الجاهلية. ثم وصف جهنم، وهي دار العذاب في الآخرة، بقوله: {ولبئس المهاد} المهاد: الفراش يأوي إليه المرء للراحة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، فاللهتعالى يقسم تأكيدا للوعيد بأن الذي يرى عزته مانعة له عن الإذعان للأمر بتقوى الله سيكون مهاده ومأواه النار، وهي بئس المهاد وشره، لا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها. وقال بعض المفسرين: إنه عبر بالمهاد الذي هو مظنة الراحة للتهكّم.
وأنت ترى من هذا التقرير ومن كون التقسيم حقيقيا في نفسه شارحا لما عليه البشر في حياتهم متصلا بما قبله ملتئما معه في السياق أن الكلام عام، وما روي من أن له سببا خاصا لا ينافي عمومه. وقد اختلفوا في السبب للآيات فروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في رجلين من المنافقين قالا - لما هلكت سرية للمسلمين -: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم. وروى ابن جرير عن السدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظهر له الإسلام فأعجبه ذلك منه، ثم خرج فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر. فإن صحت الروايتان فالظاهر أن من جعلهما سببا حمل الآيات عليهما في الجملة، وإلا فأنت ترى أن الآيات ليست مطابقة للحادثتين اللتين إن صحتا كانتا في وقتين متباعدين; فإن الأخنس من مشركي مكّة.
ثم ذكر الفريق الآخر المقابل لمن تأخذه العزة إذا ذكر باللهتعالى فقال: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} وكان مقتضى المقابلة أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في قلبه، والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به. فإن من يشري; أي: يبيع نفسه لله، لا يبغي ثمنا لها غير مرضاته، لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق، مع الإخلاص في القلب، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا وما عند كبرائها ومترفيها من القصور، ومتاع الزينة والغرور، وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه. وأما الإيمان القولي الذي يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب، ولا تظهر آثاره في الأعمال، ولا يحمل صاحبه شيئا من الحقوق لدينه وملته ولا لقومه وأمته، فلا قيمة له في كتاب، ولا يقام لصاحبه وزن في يوم الله، بل يخشى أن يقال لذويه:
{ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } [الأحقاف: 20].
ذكر اللهتعالى هذا الشراء في آيات أخرى تشرح هذه الآية وتفسرها، وتبين أن المؤمنين باعوا وأن الله قد اشترى، كقوله عز وجل:
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } [التوبة: 111] - إلى قوله: { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } [التوبة: 111] وقد وصف هؤلاء المؤمنين في الآية التي بعدها بما يجب على المؤمن أن يجعله معها ميزانا للإيمان وأهله، فنفس المؤمن لله لا للشهوة واللذة البهيمية والمكر الشيطاني، فمن آثر شهوته على مرضاة ربه، والتزام حدوده، والمحافظة على هدي دينه، فلا وزن له في سوق هذا البيع ولا قيمة. ولقد نعلم أنه ليكبر هذا القول على المفتونين بزينة الحياة الدنيا، ولذاتها وقصورها، وخمورها وحورها، وإن كانوا يزعمون أنهم من زعماء الدين، وخدمته المخلصين; لأن الحق مر في مذاق المبطلين.
والآية لا تنافي ما دلت عليه آية الدعاء من أن الإسلام شرع لنا طلب الدنيا من الوجوه الحسنة كما شرع لنا طلب الآخرة، بل هي مؤيدة لها، فإن طلبها من الطرق الحسنة; أي: المشروعة النافعة، لا ينافي مرضاة اللهتعالى ببيع النفس له; ولذلك لم يحرم سبحانه علينا إلا ما هو ضار بفاعله أو غيره، فلنا أن نتمتع بها حلالا، ونكون مثابين مرضيين عند اللهتعالى. قال بعض الصحابة لما قال - عليه الصلاة والسلام -:
"وفي بضع أحدكم صدقة يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" رواه مسلم من حديث أبي ذر. ولكن الذي ينافي مرضاة اللهتعالى وينافي سعادة الدنيا قبل الآخرة هو أن يسترسل المرء في سبيل حظوظه وشهواته خارج الحدود المشروعة فيفسد في الأرض، ولا يبالي أن يهلك بإفساده الحرث والنسل.
ثم إنّ هذا البيع لا يتحقق إلا إذا كان المؤمن يجود بنفسه وبماله في سبيل الله إذا مست الحاجة لذلك، فكيف إذا ألجأت إليه الضرورة كجهاد أعداء الملة والأمة عند الاعتداء عليهما، أو الاستيلاء على شيء من دار الإسلام، وحينئذ يكون فرضا عينيا على جميع الأفراد فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه، ومن قدر عليه بماله وجب عليه، ومن قدر عليه بهما معا وجب عليه، وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى مرضاته، وهي التي يحفظ بها دينه ويصلح بها حال عباده. ومعنى هذا أنه لا يكتفي من المؤمن أن يكتسب بالحلال، ويتمتع بالحلال، وينفع نفسه ولا يضر غيره، وأن يصلي ويصوم; لأن كل هذا يعمله لنفسه خاصة، بل يجب أن يكون وجوده أوسع وعمله أشمل وأنفع، فيساعد على نفع الناس ودرء الضرر عنهم بحفظ الشريعة، وتعزيز الأمة بالمال والأعمال، والدعوة إلى الخير ومقاومة الشر، ولو أفضى ذلك إلى بذل روحه، فإن قصر في واجب يتعلق بحفظ الملة وعزة الأمة من غير عذر شرعي فقد آثر نفسه على مرضاة اللهتعالى، وخرج من زمرة كملة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم للهتعالى، وكان أكبر إجراما ممن يقصر في واجب لا يضر تقصيره فيه إلا بنفسه؛ ذلك أن الحكمة في تربية النفس بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة هي أن ترتقي ويتسع وجودها في الدنيا، فيعظم خيرها وينتفع الناس بها، وتكون في الآخرة أهلا لجوار اللهتعالى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم، وجعلوا أكثر أعمالهم خدمة للناس وسعيا في خيرهم، فإن اللهتعالى لم يشتر أنفس المؤمنين من الحظوظ والشهوات الشخصية الخسيسة; لأجل نفعه سبحانه أو دفع الضر عنه جل شأنه، فهو غني عن العالمين، وإنما شرع هذا ليكون المؤمن باتساع وجوده وعموم نفعه سيد الناس، فليعرض مدعو الإيمان أنفسهم على الآية وأمثالها، فمن ادعى أنه من الذين باعوا أنفسهم لله وآثروا مرضاته على ما سواه، فليعرضه غيره من المنصفين عليها، ولا سيما إذا ادعى أنه واسع الوجود خادم للأمة والملة، لا جرم أن كثيرا منهم لا يصدق عليهم شيء من ذلك، ولا قولهتعالى:
{ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [الحجرات: 14] فإن معنى أسلمنا انقدنا لأحكام الدين الظاهرة وأخذنا بأعماله البدنية. وكثير ممن تعجبك أقوالهم من صنف المسلمين لا يصلون ولا يصومون، ولا يزكون ولا يحجون، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، ويأتون كثيرا من الكبائر جهارا، ويصرون عليها إصراراً.
ذكرتعالى أن من الناس من يشري; أي: يبيع نفسه، وهم المؤمنون الخلص كما في الآيات الأخرى، والإخبار بذلك أقوى في طلبه من الأمر به وأدل على تقريره، لأن الأمر به لا يدل على امتثال المأمورين، والإخبار هو الذي يدل على الوقوع، فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان.
ثم بين أنه ما شرع هذا إلا رأفة بعباده فقال: {والله رءوف بالعباد} إذ يرفع همم بعضهم ويعلي نفوسهم حتى يبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده وتقرير الحق والعدل والخير فيهم، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح
{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } [البقرة: 251] وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا، وألا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها، ولو كان كذلك - وهو من تكليف ما لا يطاق - لما قرنه اللهتعالى باسمه الرءوف الدال على سعة رحمته بعباده، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه.
ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم، والأمر كذلك، بل كثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم; إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم، وإن على من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة اللهتعالى في نفع عباده ألا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة، بل عليه أن يكون حكيما يقدر الأمور بقدرها; إذ ليس المقصود بهذا الشراء إهانة النفس ولا إذلالها، وإنما المراد دفع الشر وتقرير الخير العام رأفة بالعباد، وإيثارا للمصلحة العامة. وإن أمة يتصف جميع أفرادها أو أكثرهم بهذا الوصف لجديرة بأن تسود العالمين، وكذلك ساد سلفنا الصالحون، وإن أمة تحرم من هذا الصنف لخليقة بأن تكون مستعبدة لجميع المتغلبين، وكذلك استعبد خلفنا الطالحون، فهل نحن معتبرون؟

تفسير سفيان الثوري

. قال سفيان فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغاء مرضات الله قَالَ نَزَلَتْ فِي صُهَيْبٍ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ عَلَى أَنْ يَدَعُوهُ وَدِينَهُ [الآية: 207]

تفسير عبد الرزاق الصنعاني

.أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : نا مَعْمَرٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} قَالَ: «هُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ»

تفسير مجاهد

Tafseer Not Available

تفسير مقاتل بن سليمان

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وذلك أن كفار مكة أخذوا عمارا وبلالا وخبابا وصهيبا فعذبوهم لإسلامهم حَتَّى يشتموا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأما صُهَيْب بن سِنَان مَوْلَى عَبْد اللَّه بن جدعان الْقُرَشِيّ وكان شخصا ضعيفا فَقَالَ لأهل مكة: لا تعذبونى، هل لَكُمْ إليّ خير؟ قَالُوا: وما هُوَ؟ قَالَ: أَنَا شيخ كبير لا يضركم إن كُنْت معكم، أَوْ مَعَ غيركم، لئن كُنْت معكم لا أنفعكم، ولئن كُنْت مَعَ غيركم لا أضركم، وإن لي عليكم لحقا لخدمتي وجواري إياكم. فقد علمت أنكم إِنَّمَا تريدون مالي، وما تريدون نفسي، فخذوا مالي واتركوني وديني غَيْر راحلة. فَإِن أردت أن ألحق بالمدينة فلا تمنعوني. فَقَالَ بعضهم لبعض: صدق خذوا ماله فتعاونوا به عَلَى عدوكم.
ففعلوا ذَلِكَ فاشترى نفسه بماله كله غَيْر راحلة، واشترط ألا يمنع عن صلاة وَلا هجرة، فأقام بين أظهرهم ما شاء الله، ثُمّ ركب راحلته نهارا حَتَّى أتى المدينة مهاجرا فلقبه أبو بكر الصديق- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فَقَالَ: ربح البيع يا صُهَيْب.
فَقَالَ: وبيعك لا يخسر. فَقَالَ أَبُو بَكْر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ-: قَدْ أنزل اللَّه [33 ب] فيك وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يعني للفعل فعل الرومي صُهَيْب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان بن عمرو بن سَعِيد بن تيم بن مرة بن كَعْب بن لؤي بن غالب الْقُرَشِيّ «قَالَ عَبْد اللَّه بن ثَابِت: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ هَذَا الكتاب من أوله إلى آخره من الْهُذَيْلِ أَبِي صَالِح عن مُقَاتِلٍ بن سُلَيْمَان ببغداد درب السدرة سنة تسعين ومائة. قَالَ: وسمعته من أوله إلى آخره قراءة عَلَيْه فِي المدينة فِي سنة أربع ومائتين وَهُوَ ابْن خمس وثمانين سنة رحمنا الله وإياهم» .

تيسير التفسير للقطان

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ ٢٠٥ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ٢٠٦ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ ٢٠٧

يشهد الله: يحلف بالله. ألد الخصام: أشد الخصام. تولى: انصرف وأدبر، وبعضهم فسرها بانه تولى الحكم والسلطان فكان فساده أعظم. الحرث والنسل: الزرع والولد. أخذته العزة بالاثم: حملته الانفة والحمية. المهاد: الفراش. يشري نفسه: يبيعها. ابتغاء مرضاة الله: من اجل رضاء الله.
في هذه الآيات الكريمة يعرض عليناتعالى نموذجين من صور البشر، الاول: ذلك المنافق الشرير صاحب المظهر الحسن واللسان الذلق اللطيف، الذي يعجب به الناس. اما فعلُه فهو سيء قبيح. انه يُشهد الله على أنه مؤمن صادق، لكنه كذاب آثم خدّاع، شديد الخصومة. فاذا انصرف من المجلس سعى في الفساد فاحرق الزرع وأهلك النسل والحيوانات. ان اللهتعالى لا يحب المفسدين، بل يمد لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. واذا دُعي ذاك الرجل الى الصلاح والتقوى لم يرجع الى الحق، بل تكبّر وشمخ بأنفه وأخذته حمية الجاهلية.
ان هذا الصنف من الناس مصيره الى جهنم وبئس القرار.
قال الطبري: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، فقد جاء الى النبي بالمسجد وأظهر الاسلام، وكان حسن المنظر فصيحا. ولما خرج وتولى صادف في طريقه زرعاً للمسليمن فأحرقه، وبعضَ الحيوانات فقتلها.
وعلى اي حال فإن العبرة بعموم اللفظ، والآية تنطبق على كل خداع منافق غشاش.
والثاني: ذلك الذي يؤمن بالله إيماناً حقيقيا، ويبذل نفسه في سبيل إعلاء دينه، فلا يطلب عرض الدنيا وزخرفها. وأمثال هذا رضي الله عنهم، وأعد لهم يوم القيامة جنات عدن يدخلونها، ورحمة من الله واسعة. ويقال إنها نزلت في صهيب الرومي، وقيل فيه وفي غيره. والعبرة كما قدمنا بعموم اللفظ، فهي عامة في كل من يبذل نفسه وماله في سبيل الله.

جامع البيان للإيجي

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي): يبيع، (نفسَهُ)، بالبذل في الجهاد، أو في جميع الأوامر، (ابْتِغَاءَ): طلب، (مَرْضَاتِ اللهِ)، نزلت في صهيب بن سنان الرومي، عذبه المشركون ليرتد فأعطى جميع أمواله وخلص دينه وأتى المدينة، وأكثر السلف على أنه عام في كل مجاهد في سبيل الله، (وَاللهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ)، لإرشادهم إلى الهدى.

روح المعاني

{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ} أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روي عن ابن عباس والضحاك رضي اللهتعالى عنهما أن الآية نزلت في سرية الرجيع، أو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما أخرج ابن جرير عن أبـي الخليل قال: سمع عمر رضي اللهتعالى عنه إنساناً يقرأ هذه الآية فاسترجع وقال: قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل.

{ٱبْتَغَاءَ مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ} أي طلباً لرضاه، فابتغاء مفعول له، ومرضات مصدر بني ـ كما في «البحر» ـ على التاء كمدعاة، والقياس تجريده منها، وكتب في المصحف ـ بالتاء ـ ووقف عليه ـ بالتاء والهاء ـ وأكثر الروايات أن الآية نزلت في صهيب الرومي رضي اللهتعالى عنه،/ فقد أخرج جماعة أنّ صهيباً أقبل مهاجراً نحو النبـي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً؛ وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا. دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "أبا يحيـى ربح البيع ربح البيع" وتلا له الآية. وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى الاشتراء.

وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد بن الأسود لما قال عليه الصلاة والسلام: "من ينزل خبيباً عن خشبته فله الجنة" فقال: أنا وصاحبـي المقداد ـ وكان خبيب قد صلبه أهل مكة ـ وقال الإمامية وبعض منا: إنها نزلت في علي كرم اللهتعالى وجهه حين استخلفه النبـي صلى الله عليه وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار، وعلى هذا يرتكب في الشراء مثل ما ارتكب أولاً {وَٱللَّهُ رَءوفٌ بِٱلْعِبَادِ} أي المؤمنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه.

زاد المسير لابن الجوزي

.

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو معنى قول عمر وعلي رضي الله عنهما‏.‏ والثاني‏:‏ أنها نزلت في الزبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته، وقد شرحنا القصة‏.‏ وهذا قول ابن عباس، والضحاك‏.‏ والثالث‏:‏ أنها نزلت في صهيب الرومي، واختلفوا في قصته، فروي أنه أقبل مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش، فنزل، فانتثل كنانته، وقال‏:‏ قد علمتم أني من أرماكم بسهمٍ، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فان شئتم دللتكم على مالي‏.‏ قالوا‏:‏ فدلنا على مالك نخلِّ عنك، فعاهدهم على ذلك، فنزلت فيه هذه الآية، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ربح البيعُ أبا يحيى ‏"‏ وقرأ عليه القرآن‏.‏ هذا قول سعيد بن المسيب، وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس، وقال‏:‏ إن الذي تلقاه فبشره بما نزل فيه أبو بكر الصديق‏.‏ وذكر مقاتل أنه قال للمشركين‏:‏ أنا شيخ كبير لا يضركم إن كنت معكم أو عليكم، ولي عليكم حق لجواري، فخذوا مالي غير راحلة، واتركوني وديني، فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة، فأقام ما شاء الله، ثم ركب راحلته، فأتى المدينة مهاجراً، فلقيه أبو بكر، فبشره وقال‏:‏ نزلت فيك هذه الآية‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ نزلت في صهيب، وأبي ذر الغفاري، فأما صهيب، فأخذه أهله فافتدى بماله، وأما أبو ذر، فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجراً‏.‏ والرابع‏:‏ أنها نزلت في المجاهدين في سبيل الله، قاله الحسن وابن زيد في آخرين‏.‏ والخامس‏:‏ أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا، هذا قول قتادة‏.‏ و«يشري» كلمة من الأضداد، يقال‏:‏ شرى، بمعنى‏:‏ باع، وبمعنى‏:‏ اشترى‏.‏ فمعناها على قول من قال‏:‏ نزلت في صهيب؛ معنى‏:‏ يشتري‏.‏ وعلى بقية الأقوال بمعنى‏:‏ يبيع‏.‏

زهرة التفاسير لأبي زهرة

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) بعد أن ذكر الله سبحانه بعض الناس الذين يعدون داء الجماعات التي تؤدي إلى الفساد، وإلى الهلاك، وحالهم إذا تولوا حكم الناس - ذكر أهل الفضل الذين يعدون دواء هذا الداء، وعلاج ذلك المرض الفتاك، وصلاح ذلك الفساد؛ فإنه إذا كان طغيان بعض الولاة هو الذي يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل، فأولئك الأبرار الذين يجاهدون الطغيان هم الذين يقفون تياره، ويصدعون بأمر الله، وهم الذينِ باعوا أنفسهم مجاهدين ناطقين بكلمة الحق؛ ولذا قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ من يَشْرِي نَفْسَه) أي يبيع نفسه لله سبحانه؛ فيفدي دين الله والحق بنفسه وماله وكل ما يملك وفي ذكر الفريق المقابل لأهل الشر بذلك الوصف الذي يشعر بأن أخص حالهم بذل النفس والنفيس، لا مجرد الإخلاص والبراءة من النفاق - إشارة إلى عظم المهمة الملقاة على عاتقهم، وهي مجاهدة الشر والتغلب عليه، وإزالة أوضاره؛ فإن ذلك يقتضي التعرض للأذى، بل للتلف، ومن قتل في سبيله قتل شهيدًا، بل إنه يكون أفضل الشهداء، كما صرح بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - .¬وإن هذا الذي يبيع نفسه لله سبحانه، ويفدي الحق بنفسه وماله، لَا يطلب إلا ثمنا واحدا، هو أعلى الأثمان، وهو رضا الله سبحانه وتعالى؛ ولذا قال سبحانه فيما يطلبه: (ابْتِغَاءَ مرْضاتِ اللَّهِ) الابتغاء: الطلب الشديد والرغبة القوية الصادقة؛ ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا، ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين التعبير بالمصدر الميمي وغيره؛ والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعا قائما متحققا في الوجود، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجردا؛ فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجردا من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أو لَا، أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق، أو في صورة الوجود المتحقق؛ وعلى ذلك يكون معنى (ابْتِغَاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلبا موثقا رضا الله سبحانه حقيقة واقعة مؤكدة، ويتصورون رضاه سبحانه حقيقة قائمة قد حلت بهم، فيشتد طلبهم، وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم.وأولئك الذين باعوا أنفسهم لله، وافتدوا الحق بأموالهم وأنفسهم، هم حجة الله القائمة في عهد الظلم والظلمات؛ وإذا كان الله سبحانه وتعالى يبتلي الجماعات بأهل الشر والطاغوت، وحكم الظالمين؛ فإنه يرسل في هذا البلاء أولئك الذين ندبوا أنفسهم للحق يدعون عليه، ويجهرون به، ويجاهدون في سبيل الله لرفع مناره، وجعل كلمة الله هي العليا؛ وعندئذ يكون معهم كل من يميل إلى الحق قلبه، وبين هؤلاء قوم لَا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.وبذلك يكون الناس أربع طوائف:أولاها - أهل الشر الطاغون، الظالمون.¬وثانيتها - أهل العدل الذين يفتدون الحق بأنفسهم وأموالهم، ويطرحون كل هوى لهم في سبيل رضا الله وإقامة الحق.وثالثتها - أولئك الذين يتبعونهم وإن لم يبلغوا شأوهم، ولم يفتدوا الحق مثل افتدائهم.ورابعتها - أولئك الذين ينظرون، ويتبعون الفريق الغالب في هذه المعركة التي تقوم بين الخير والشر؛ وأولئك هم الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الإمعة؛ وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن مسلكهم، فقال: " لَا تكونوا إمعة؛ تقولون إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا " .(وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) ذَيَّل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتلك الكلمة السامية؛ للإشارة إلى أمور ثلاثة وصلت إليها مداركنا:أولها - إن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل الخير القوي بجوار الشر المندفع، فهدى الله أهل الخير الأقوياء إلى مدافعة أهل الشر الطغاة، ولولا ذلك لعم الفساد، وهلك العباد، (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ. . .).وثانيها - الإشارة إلى أن الغلب للحق دائما؛ لأن ذلك من دواعي رأفته ورحمته بعباده، والحق الذي يجيء بالمغالبة حق قوي عزيز يعض عليه بالنواجذ؛ وفيه إعلان لغلبة المعاني الإنسانية على النواحي الحيوانية.وثالثها - إن من رحمة الله بعباده ألا يمكن للظالمين، وأن يمكن للعادلين؛ فإن الحكم العادل يكون رحمة بالناس ورفقا بهم؛ والحاكم العادل ظل الله في أرضه، ورحمته بخلقه؛ وتسليط الظالمين من أمارة غضب العلي الحكيم.¬ثم في تذييل الآية ذلك التذييل فوق ما سبق دعوة إلى الرحمة بالناس والرفق بهم والحدب عليهم، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم من وليَ من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن وليَ من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به " اللهم هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.* * *(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212))¬بين الله سبحانه في الآية السابقة على هذه الآيات حال أولئك الذين يفرقون بين الجماعات، ويعيثون في الأرض فسادا، ويهلكون الحرث والنسل، وفيهم لدد وعنف وخصومة تغري بالعداوة، وتنشر الفرقة والانقسام؛ وكل هذا ضد مبادئ الإسلام؛ ولذلك ناسب بعد أن بين عمل المفسدين، أن يبين واجب المصلحين؛ وهو السلم بين بني الإنسان، والوحدة بين أهل الإسلام، ولذلك قال سبحانه:

صفوة التفاسير للصابوني

[الآيات : 204 إلى 212]
المناسبة: لّّما ذكر تعالى في الآيات السابقة العبادات التي تًُطهرّ القلوب، وتزكّي النفوس كالصيام، والصدقة، والحج، وذكر أن في الناس من يطلب الدنيا ولا غاية له وراءها، ومنهم من تكون غايته نيل رضوان الله تبارك وتعالى، أعقبها بذكر نموذج عن الفريقين: فريق الضلالة الذي باع نفسه للشيطان، وفريق الهدى الذي باع نفسه للرحمن، ثم حذَّر تبارك وتعالى من اتباع خطوات الشيطان، وبيَّن لنا عداوته الشديدة.
اللغة: {أَلَدُّ} اللَّدَدُ: شدة الخصومة قال الطبري: الألدُّ: الشديد الخصومة وفي الحديث: إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلى الله الألدُّ الخَصِم {الحرث} : الزرع لأنه يزرع ثم يحرث {النسل} الذريّة والولد، وأصله الخروج بسرعة ومنه {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51] وسمي نسلاً لأنه ينسل يسقط من بطن أمه بسرعة. {العزة} الأنفة والحميَّة. {حَسْبُهُ} حسب اسم فعل بمعنى كافيه. {المهاد} : الفراش الممهَّد للنوم. {يَشْرِي} : يبيع. {ابتغآء} طلب. {السلم} بكسر السين بمعنى الإسلام وبفتحها بمعنى الصلح، وأصله من الاستسلام وهو الخضوع والانقياد قال الشاعر:
دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ حتى ... رأيْتهُم تَوَلَّوْا مُدْبرينا
{زَلَلْتُمْ} الزّلل: الانحراف عن الطريق المستقيم وأصله في القدم ثم استعمل في الأمور المعنوية، {ظُلَلٍ} جمع ظلّة وهي ما يستر الشمس ويحجب أشعتها عن الرؤية.
سَبَبُ النّزول: 1 روي أن الأخنس بن شريق أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأظهر له الإسلام وحلف أنه يحبه، وكان منافقاً حسن العلانية خبيث الباطن، ثم خرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمرَّ يزرع لقوم من المسلمين وحُمُر فأحرق الزرع وقتل الحُمُر فأنزل الله تعالى فيه الآيات {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ... } الآية وإلى قوله: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل ... } الآية.
2 وروي أن صهيباً الرومي لما أراد الهجرة إلى المدينة المنورة لحقه نفر من قريش من المشركين ليردوه فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأهذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيْمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم، قالوا: جئتنا صعلوكاً لا تملك شيئاً وأنت الآن قو مال كثير!! فقال: أرأيتم إن دللتكم على مالي تخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم، فدلّهم على ماله بمكة فلما قدم المدينة دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: رَبحَ البَيْعَ صُهَيْبٌ رَبحَ البَيْعَ صُهَيْبٌ وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ فيه {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله ... } الآية.
التفسِير: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} أي ومن الناس فريق يروقك كلامه يا محمد ويثير إِعجابَك بخلابة لسانه وقوة بيانه، ولكنه منافق كذّاب {فِي الحياة الدنيا} أي في هذه الحياة فقط أما الآخرة فالحاكم فيها علام الغيوب الذي يطّلع على القلوب والسرائر {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ} أي يظهر لك الإِيمان ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} أي شديد الصخومة يجادل بالباطل ويتظاهر بالدين والصلاح بكلامه المعسول {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا} أي وإذا انصرف عنك عاث في الأرض فساداً، وقد نزلت في الأخنس ولكنها عامة في كل منافق يقول بلسانه ما لي في قلبه [كقوله] :
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ فيك كما يروغُ الثعلب
{وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} أي يهلك الزرع وما تناسل من الإِنسان، والحيوان ومعناه أن فساده عام يشمل الحاضر والباد، فالحرث محل نماء الزروع والثمار، والنسل وهو نتاج الحيوانات التي لا قوام للناس إلا بهما، فإفسادهما تدمير للإنسانية {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} أي يبغض الفساد ولا يحب المفسدين {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} أي إذا وُعظ هذا الفاجر وذكِّر وقيل له انزع عن قولك وفعلك القبيح، حملته الأنفة وحميَّةُ الجاهلية على الفعل بالإثم والتكبر عن قبول الحق، فأغرق في الإفساد وأمعن في العناد {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد} أي يكفيه أن تكون له جهنم فراشاً ومهاداً، وبئس هذا الفراش والمهاد {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} هذا هو النوع الثاني وهم الأخيار الأبرار، فبعد أن ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أتبعه بذكر صفات المؤمنين الحميدة والمعنى ومن الناس فريق من أهل الخير والصلاح باع نفسه لله، طلباً لمرضاته ورغبةً في ثوابه لا يتحرى بعمله إلا وجه الله {والله رَؤُوفٌ بالعباد} أي عظيم الرحمة بالعباد يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات ولا يعجل العقوبة لمن عصاه. . ثم أمر تعالى المؤمنين بالانقياد لحكمه والاستسلام لأمره والدخول في الإِسلام الذي لا يقبل الله ديناً سواه فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} أي ادخلوا في الإِسلام بكليته في جميع أحكامه وشرائعه، فلا تأخذوا حكماً وتتركوا حكماً، لا تأخذوا بالصلاة وتمنعوا الزكاة مثلاً فالإسلام كل لا يتجزأ {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي لا تتبعوا طرق الشيطان وإغواءه فإنه عدوٌ لكم ظاهر العداوة {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} أي إن انحرفتم عن الدخول في الإسلام من بعد مجيء الحجج الباهرة والبراهين القاطعة على أنه حق {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي اعلموا أن الله غالب لا يعجزه الانتقام ممن عصاه حكيم في خلقه وصنعه {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة} أي ما ينتظرون شيئاً إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق حيث تنشق السماء وينزل الجبار عَزَّ وَجَلَّ في ظلل من الغمام وحملة العرش والملائكة الذين لا يعلم كثرتهم إلا الله ولهم زجل من التسبيح يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح {وَقُضِيَ الأمر وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي انتهى أمر الخلائق بالفصل بينهم فريق في الجنة وفريق في السعير، وإلى الله وحده مرجع الناس جميعاً.
والمقصود تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها وبيان أن الحاكم فيها هو ملك الملوك جل وعلا الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه وهو أحكم الحاكمين. . ثم قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} أي سلْ يا محمد بني إسرائيل توبيخاً لهم وتقريعاً كم شاهدوا مع موسى من معجزات باهرات وحجج قاطعات تدل على صدقه ومع ذلك كفروا ولم يؤمنوا {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} أي من يبدل نعم الله بالكفر والجحود بها فإِن عقاب الله له أليم وشديد {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} أي زينت لهم شهوات الدنيا ونعيمها حتى نسوا الآخرة وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهافتوا عليها وأعرضوا عن دار الخلود. {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ} أي وهم مع ذلك يهزؤون ويسخرون بالمؤمنين يرمونهم بقلة العقل لتركهم الدنيا وإقبالهم على الآخرة كقوله: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] قال تعالى رداً عليهم: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} أي والمؤمنون المتقون لله فوق أولئك الكافرين منزلةً ومكانة، فهم في أعلى علّيين وأولئك في أسفل سافلين، والمؤمنون في الآخرة في أوج العز والكرامة والكافرون في حضيض الذل والمهانة {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي والله يرزق أولياءه رزقاً واسعاً رغداً، لا فناء له ولا انقطاع كقوله: {يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] أو يرزق في الدنيا من شاء من خلقه ويوسع على من شاء مؤمناً كان أو كافراً، براً أو فاجراً على حسب الحكمة والمشيئة دون أن يكون له محاسب سبحانه وتعالى.
البَلاَغَة: 1 {أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} ذكر لفظ الإثم بعد قوله العزة يسمى عند علماء البديع ب التميم لأنه ربما يتوهم أن المراد عزة الممدوح فذكر بالإِثم ليشير إلى أنها عزة مذمومة.
2 {وَلَبِئْسَ المهاد} هذا من باب التهكم أي جعلت لهم جهنم غطاءً ووطاءً فأكرم بذلك كما تكرم الأم ولدها بالغطاء والوطاء اللّينين.
3 {هَلْ يَنظُرُونَ} استفهام إنكاري في معنى النفي بدليل مجيء إلاّ بعدها أي ما ينتظرون. 4 {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} التنكير للتهويل فهي في غاية الهول والمهابة لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها وقوله: {وَقُضِيَ الأمر} هو عطف على المضارع {يَأْتِيَهُمُ الله} وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه فكأنه قد كان.
5 {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} إظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة.
6 {زُيِّنَ ... وَيَسْخَرُونَ} أورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغاً منه مركوزاً في طبيعتهم وعطف عليه بالفعل المضارع {وَيَسْخَرُونَ} للدلالة على استمرار السخرية منهم لأن صيغة المضارع تفيد الدوام والاستمرار.
تنبيه: قال ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى في رسالته التدميرية: وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات آخر ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه أو صحَّ عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقول في جميع ذلك من جنس واحد وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها، إنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير تحريفٍ ولا تعطيل ولا تكييفٍ ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فلو سأل سائل: كيف يجيء سبحانه؟ فليقل له: كما لا تعلم كيفية ذاته كذلك لا تعلم كيفية صفاته .

فتح البيان لصديق حسن خان

[آية رقم :207]
(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) يشري بمعنى يبيع أي يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال قتادة: هم المهاجرون والأنصار، ومثله قوله تعالى (وشروه بثمن بخس) وأصله الاستبدال ومنه قوله (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) والمرضاة الرضا، قال ابن عباس: نزلت في سرية الرجيع وكانت بعد أحد، وفي البخاري تمام قصته عن حديث أبي هريرة فإن شئت فارجع إليه. (والله رؤوف بالعباد) وجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة لهم ولطفاً بهم، ومن رأفته أن جعل النعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته أنه يقبل توبة عبده وأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وأن المصر على الكفر ولو مائة سنة إذا تاب ولو لحظة أسقط عنه عقاب تلك السنين وأعطاه الثواب الدائم. ومن رأفته أن نفس العباد وأموالهم له ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً. وهذه أربعة أقسام اشتملت عليها تلك الآيات الكريمات أولها راغب في الدنيا فقط ظاهراً وباطناً، والثاني راغب فيها وفي الآخرة كذلك، والثالث راغب في الآخرة وفي الدنيا باطناً، والرابع راغب في الآخرة ظاهراً وباطناً معرض عن الدنيا كذلك.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

فتح القدير للشوكاني

207- " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد " ويشري بمعنى يبيع: أي يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومثله قوله تعالى: "وشروه بثمن بخس" وأصله الاستبدال ومنه قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"، ومنه قول الشاعر: وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه ومنه قول الآخر: يعطي بها ثمناً فيمنعها ويقول صاحبه ألا تشرى والمرضاة: الرضا، تقول: رضي يرضى، رضا ومرضاة. ووجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة بهم ولطفاً لهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أسبت السرية التي فيها عاصم ومرثد قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذي هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم؟ فأنزل الله: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" أي ما يظهر من الإسلام بلسانه "ويشهد الله على ما في قلبه" أنه مخالف لما يقوله بلسانه: "وهو ألد الخصام" أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك "وإذا تولى" خرج من عندك "سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أي لا يحب عمله ولا يرضى به "ومن الناس من يشري نفسه" الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك: يعني هذه السرية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ومن الناس من يعجبك" الآية، قال: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقال: جئت أريد الإسلام ويعلم الله أني لصادق، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، فذلك قوله: "ويشهد الله على ما في قلبه". ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر، فأنزل الله "وإذا تولى سعى في الأرض" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهو ألد الخصام" قال: هو شديد الخصومة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: "وإذا تولى سعى في الأرض" قال: عمل في الأرض "ويهلك الحرث" قال: نبات الأرض "والنسل" نسل كل شيء من الحيوان الناس والدواب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أيضاً أنه سئل عن قوله: "وإذا تولى سعى في الأرض" قال: يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطر من السماء، فتهلك بحبس القطر الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. ثم قرأ مجاهد: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "ويهلك الحرث والنسل" قال: الحرث الزرع، والنسل: نسل كل دابة. وأخرج ابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الشعب عن سفيان قال: قال رجل لمالك بن مغول: اتق الله، فسقط فوضع خده على الأرض تواضعاً لله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ولبئس المهاد" قال: بئس المنزل. وأخرجا عن مجاهد قال: بئس ما شهدوا لأنفسهم. وأخرج ابن مردويه "عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج وأنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم، فدفعت إليهم مالي فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ربح البيع صهيب مرتين". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي في الدلائل عن صهيب نحوه. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن أنس قال: نزلت في خروج صهيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: هم المهاجرون والأنصار.

محاسن التأويل للقاسمي

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ } أي: يبيعها ببذلها في طاعة الله: { ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } أي: طلب رضاه: { وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وأسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة، مع كفرهم به، وتقصيرهم في أمره.
لطيفة
قال بعضهم: كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في جنانه ! والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به. فإن من يبيع نفسه لله، لا يبغي ثمناً لها غير مرضاته، لا يتحرّى إلا العمل الصالح، وقول الحق والإخلاص في القلب، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا... وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه...
وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن أبي حاتم ورزين عن سعيد بن المسيب قال:
"أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش ! لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً. وأيم الله ! لا تصلون إليَّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم ! فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: ربح البيع، أبا يحيى ! ربح، أبا يحيى... ! ونزلت: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ } الآية" .
وأخرج الحاكم في " المستدرك " نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب موصولاً. وأخرجه أيضاً من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس. وفيه التصريح بنزول الآية، وقال: صحيح على شرط مسلم وروي أنها نزلت في صهيب وغيره، كما روي في نزول الأولى روايات ساقها بعض المفسرين.
ولا تنافي في ذلك، لأن قولهم: نزلت في كذا، تارة يراد به أن حالاً ما كان سبباً لنزولها، بمعنى أنها ما نزلت إلا لأجله، وهذا يعلم إما من إشعار الآية بذلك، أو من رواية صحّ سندها صحة لا مطعن فيه. وتارة يراد به أنها نزلت بعد وقوع شأن ما تشمله بعمومها. فيقول الراوي عقيب حدوث ذلك الشأن: نزلت في كذا، والمراد: أنها تصدق عليه لا أن ذلك الشأن كان سبباً للنزول... وما روي في هذه الآية من هذا القبيل.
وإلى هذا النوع أشار الزركشي في " البرهان " بقوله: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها. فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع....
وقد قدمنا أن سبب النزول مما يدخله الاجتهاد. وأن لا يعول منه إلا على ما صح سنده. وما نزل عنه وارتقى عن درجة الضعف يتفقّه فيه.. فاحرص على هذا التحقيق. وقد أسلفنا في المقدمة البحث فيه مستوفى. وبالله التوفيق.

مدارك التنزيل للنسفي

ونزل في صهيب حين أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه فاشترى نفسه بماله منهم وأتى المدينة ، أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل ( وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ) يبيعها ( ابتغاء ) لابتغاء ( مَرْضَاتِ الله والله رَءُوفٌ بالعباد ) حيث أثابهم على ذلك .

مراح لبيد للجاوي


 {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى} أي يشتري {نَفْسَهُ} بماله {ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ}
     روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان، وفي عمار بن ياسر، وفي سمية أمه وفي ياسر أبيه، وفي بلال مولى أبي بكر، وفي خباب بن الأرث، وفي أبي ذر، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم. فأما صهيب فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير ولي مال ومتاع وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني. فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله فانصرف إلى المدينة فنزلت هذه الآية. وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال: ربح بيعك يا أبا يحيى. فقال: وما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك قرآناً، وقرأ عليه هذه الآية. وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرّا وأتيا المدينة، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا {وَٱللَّهُ رَءُوفٌ بِٱلْعِبَادِ} الذين قتلوا في مكة أبي عمار وأمه وغيرهما لأنه تعالى أرشدهم لما فيه رضاه.

معالم التنزيل للبغوي

قوله تعالى: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " أي لطلب رضاء الله تعالى " والله رؤوف بالعباد " روي عن ابن عباس و الضحاك : أن هذه الآية نزلت في سرية الرجيع وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة: إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك، وكان ذلك مكراً منهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبد الله بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم ابن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري،

 قال أبو هريرة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري فساروا فنزلوا ببطن مكة والمدينة ومعهم تمر عجوة فأكلوا فمرت عجوز فأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكة وقالت: قد سلك هذا الطريق أهل يثرب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فركب سبعون رجلاً، منهم معهم الرماح حتى أحاطوا بهم،

 قال أبو هريرة رضي الله عنه: ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا: تمر يثرب، فاتبعوا آثارهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد فأحاط بهم القوم فقتلوا مرثداً وخالداً وعبد الله بن طارق، ونثر عاصم بن ثابت كنانته وفيها سبعة أسهم فقتل بكل سهم رجلاً من عظماء المشركين ثم قال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحك لحمي آخر النهار،

 ثم أحاط به المشركون فقتلوه، فلما قتلوه أرادوا حز رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشرين في قحفه الخمر فأرسل الله رجلاً من الدبر - وهي الزنابير - فحمت عاصماً فلم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر فقالوا دعوه حتى تمسي فتذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء وأمطرت مطراً كالعزالي فيعث الله الوادي غديراً فاحتمل عاصماً به فذهب به إلى الجنة وحمل خمسين من المشركين إلى النار وكان عاصم قد أعطى الله تعالى عهداً أن لايمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدبر منعته يقول: عجباً لحفظ الله المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع عاصم في حياته.

 وأسر المشركون خبيب بن عدي الأنصاري، وزريد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكة، فأما خبيب فابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لقتلوه بأبيهم، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بنات الحارث موسى ليستحد بها فأعارته فدرج بني لها وهي غافلة فما راع المرأة إلا خبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى بيده، فصاحت المرأة

 فقال خبيب: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن الغدر ليس من شأننا، فقالت المرأة بعد: والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد، وما بمكه من ثمرة، إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً، ثم إنهم خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال لهم خبيب دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فكان خبيب هو أول من سن لكل مسلم قتل صبراً الصلاة،

 فركع ركعتين، ثم قال لولا أن يحسبوا أن ما بي جزع لزدت، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول: فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع فصلبوه حياً فقال اللهم: إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي، ثم قام أبو سروعة عقبة بن الحرث فقتله. ويقال: كان رجل من المشركين يقال له سلامان، أبو ميسرة، معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيبك اتق الله فما زاده ذلك إلا عتواً فطعنه فأنفذه وذلك قوله عز وجل " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم " يعني سلامان.

وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله بأبيه واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيلن حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه يصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً يحب أصحاب محمد محمداً، ثم قتله النسطاس.

فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه أيكم (ينزل) خبيباً عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود، فخرجا يمشيان بالليل ويكمنان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلاً وإذا حول الخشبة أربعون رجلاً من المشركين نائمون نشاوى فأنزلاه فإذا هو رطب ينثي لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً، ويده على جراحته وهي تبض دماً اللون لون دم والريح ريح المسك، فحمله الزبير على فرسه وسارا فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيباً فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون، فلما لحقوهما قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض.

 فقال الزبير: ما جرأكم علينا يا معشر قريش، ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يدفعان عن شبليهما فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصروا إلى مكة، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده فقال يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك فنزل في الزبير والمقداد بن الأسود " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب عن خشبته. وقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب بن سنان الرومي حين أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم،

 فقال لهم صهيب إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة، فأقام بمكة ما شاء الله ثم خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال، فقال له أبو بكر ربح بيعك يا أبا يحيى، فقال له صهيب: وبيعك فلا تتحسر، قال صهيب: ما ذاك؟ فقال قد أنزل الله فيك، وقرأ عليه هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب و عطاء : أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته ،

 ثم قال : يا معشر قريش لقد علمتم أني لمن أرماكم رجلاً والله لا أضع سهماً مما في كنانتي إلا في قلب رجل منكم وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي قالوا : نعم . ففعل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية . وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية ؟ نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول له قل لا إله إلا الله فيأبى أن يقولها ، فقال المسلم والله لأشرين نفسي لله . فتقدم فقاتل وحده حتى قتل . وقيل نزلت الآية في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ،

 قال ابن عباس : أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم ، قال وأنا أشري نفسي لله فقاتله فاقتتل الرجلان لذلك ، وكان علي إذا قرأ هذه الآية يقول : اقتتلا ورب الكعبة ، وسمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " فقال عمر ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل . أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن شريح أخبرنا أبو القاسم البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرني حماد بن سلمه عن أبي غالب عن أبي أمامه أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الجهاد أفضل ؟ قال : " أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر ".

مفاتيح الغيب للرازي

الآية رقم 207
{ومن الناس من يشرى نفسه ابتغآء مرضات الله والله رءوف بالعباد}. اعلم أنه تعالى لما وصف في الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر في هذه الآية حال من يبذل دنياه ونفسه وماله لطلب الدين فقال: {ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله} ثم في الآية مسائل: المسألة الأولى: في سبب النزول روايات أحدها: روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان، وفي عمار بن ياسر، وفي سمية أمه، وفي ياسر أبيه، وفي بلال مولى أبي بكر، وفي خباب بن الأرت، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم، فأما صهيب فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير، ولي مال ومتاع، ولا يضركم كنت منكم أو من عدوكم تكلمت بكلام وأنا أكره أن أنزل عنه وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني، فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله، فانصرف راجعا إلى المدينة، فنزلت الآية، وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال له: ربح بيعك، فقال له صهيب: وبيعك فلا نخسر ما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليه الآية، وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرا وأتيا المدينة، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا، وفيهم نزل قول الله تعالى: {والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا} (النحل:41) بتعذيب أهل مكة {وءاتيناه فى الدنيا حسنة} (النحل:41) بالنصر والغنيمة، ولأجر الآخرة أكبر، وفيهم نزل: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}. والرواية الثانية: أنها نزلت في رجل أمر بمعروف ونهى عن منكر، عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم. والرواية الثالثة: نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه إلى الغار، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عليه السلام عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية. المسألة الثانية: أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء: البيع، قال تعالى: {وشروه بثمن بخس} (يوسف:20) أي باعوه، وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله، من الصلاة والصيام والحج والجهاد، ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله، كان ما يبذله من نفسه كالسلعة، وصار الباذل كالبائع، والله كالمشتري، كما قال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة:111) وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة، فاقل: {المشركون يأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} (الصف:10 ـ 11) وعندي أنه يمكن إجراء لفظة الشراء على ظاهرها وذلك أن من أقدم على الكفر والشرك والتوسع في ملاذ الدنيا والإعراض عن الآخرة وقع في العذاب الدائم فصار في التقدير كأان نفسه كانت له، فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه وصارت حقا للنار والعذاب، فإذا ترك الكفر والفسق وأقدم على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من العذاب والنار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دارهم معدودة ويشتري بها نفسه فكذلك المؤمن يبذل أنفاسا معدودة ويشتري بها نفسه أبدا لكن المكاتب عبد ما بقي عليه دارهم فكذا المكلف لا ينجو عن رق العبودية ما دام له نفس واحد في الدنيا ولهذا قال عيسى عليه السلام: {نبيا وجعلنى مباركا أين ما كنت} (مريم:31) وقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. فإن قيل: إن الله تعالى جعل نفسه مشتريا حيث قال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (التوبة:111) وهذا يمنع كون المؤمن مشتريا. قلنا: لا منافاة بين الأمرين، فهو كمن اشترى ثوبا بعبد، فكل واحد منهما بائع، وكل واحد منهما مشتر، فكذا ههنا وعلى هذا التأويل فلا يحتاج إلى ترك الظاهر وإلى حمل لفظ الشراء على البيع. إذا عرفت هذا فنقول: يدخل تحت هذا كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين، فيدخل فيه المجاهد، ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل، كما فعله أبو عمار وأمه، ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين، ويدخل فيه المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب، ويدخل فيه من يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر. وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه بعث جيشا فحاصروا قصرا فتقدم منهم واحد، فقاتل حتى قتل فقال بعض القوم: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذبتم رحم الله أبا فلان، وقرأ {ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله} ثم اعلم أن المشقة التي يتحملها الإنسان لا بد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية، فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه بل يعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الإغتسال من الجنابة ففعل، قال قتادة: أما والله ما هم بأهل حروراء المراق من الدين ولكنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلها آخر قاتلوا على دين الله وشروا أنفسهم غضبا لله وجهادا في سبيله. المسألة الثانية: {يشرى نفسه ابتغاء * مرضات * الله} أي لابتغاء مرضاة الله، و {يشرى} بمعنى يشتري. أما قوله تعالى: {والله * رءوف بالعباد} فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس، ومن رأفته أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب. وأعطاه الثواب الدائم، ومن رأفته أن النفس له والمال، ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلا منه ورحمة وإحسانا.

نظم الدرر للبقاعي

ولما أتم الخبر عن هذا القسم الذي هو شر الأقسام أتبعه خيرها ليكون ختاماً وبينهما تباين فإن الأول من يهلك الناس لاستبقاء نفسه وهذا يهلك نفسه لاستصلاح الناس فقال: {ومن الناس من} أي شخص أو الذي {يشري} أي يفعل هذا الفعل كلما لاح له وهو أنه يبيع بغاية الرغبة والانبعاث {نفسه} فيقدم على إهلاكهاأو يشتريها بما يكون سبب إعتاقها وإحيائها بالاجتهاد في أوامر الله بالنهي لمثل هذا الألد عن فعله الخبيث والأمر له بالتقوى والتذكير بالله، وروي أنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لأنه لما هاجر أرادت قريش رده فجعل لهم ماله حتى خلوا سبيله فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ربح البيع» فعلى هذا يكون شرى بمعنى اشترى، ثم علل ذلك بقوله: {ابتغآء} أي تطلب وتسهل وتيسر بغاية ما يمكن أن يكون كل من ذلك {مرضات الله} أي رضى المحيط بجميع صفات الكمال وزمان الرضى ومكانه بما دل عليه كون المصدر ميمياً ويكون ذلك غاية في بابه بما دل عليه من وقفه بالتاء الممدودة لما يعلم من شدّة رحمة الله تعالى به {والله رؤوف} أي بالغ الرحمة،وأظهر موضع الإضمار دلالة على العموم وعلى الوصف المقتضي للرحمة والشرف فقال: {بالعباد *} كلهم حيث أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة مع كفرهم به أو تقصيرهم في أمره، وبين لهم الطريق غاية البيان بالعقل أولاً والرسل ثانياً والشرائع ثالثاً والكتب الحافظة لها رابعاً، ولعل الفصل بين الأقسام الأربعة بالأيام المعدودات اهتماماً بأمرها لكونها من فعل الحج وتأخيرها عن أخواتها إشارة إلى أنها ليست من دعائم المناسك بل تجبر بدم.